الثقافي

إيلان بابه: تفكيك الإيديولوجية الصهيونية





القارئ المتابع لما يصدر عن القضية الفلسطينية يعرف كاتب هذا المؤلَّف من إصدارات سابقة له، أهمها، بلا شك، «التطهير العرقي في فلسطين» الذي صدرت ترجمته العربية عن «مؤسسة الدراسات الفلسطينية»، إضافة إلى «خارج الإطار: القمع الأكاديمي والفكري في «إسرائيل» الصادر عن «دار قدمس».
وإيلان بابه أثبتت كتاباته ليس فقط أنه مؤرخ من طراز رفيع، وإنما أيضاً إنسان شجاع، لأنه يغامر بالوقوف في وجه الصهيونية، في عقر دارها الشرقي القائم في فلسطين، أي في كيان العدو «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط»، و«الشعب المعجزة الذي بفضله استحالت الصحاري القاحلة إلى جنان عدن»، و«أرض بلا شعب إلى شعب بلا أرض» وما إلى ذلك من الشعارات الغوغائية التضليلية.
الشعارات آنفة الذكر، ومثيلاتها، هي التي يناقشها الكاتب عبر مؤلفه «فكرة إسرائيل - تاريخ سيطرة ومعرفة» الذي خصصه لتفكيك الفكر أو الايديولوجية الصهيونية.
فمن المعروف أن تيودور هرتسل، الذي يعد أب الصهيونية المعاصرة، طرح مشروعه «دولة اليهود» من منظور استعماري نفعي للغرب، وهو ردد ذلك مرات عديدة في كل كتاباته، لكن العدو يطرح خلفية تأسيس كيانه في فلسطين، وعلى أنقاضها وأنقاض شعبها، على أنه عمل حداثي منسجم مع السائدة حينئذ في الغرب، أي تأسيس الدول القومية، ويتماشى معها.
الجهة التي مارست هذا الدور، يؤكد الكاتب، هي الأكاديميا الإسرائيلية، التي عملت على كتاب التاريخ من منظور فكري إيديولوجي وليس اعتماداً على الحقائق. موضوع الكتاب «إسرائيل كفكرة»، يوضح فيه حقيقة أن كيان العدو نتاج استعماري وليس أي أمر آخر. أي أن إسرائيل، كفكرة، عمل رجعي معادٍ للتطور قائم على الاضطهاد والتمييز العنصري والتفرقة العنصرية وعلى السلب والنهب والغزو.
التيار الإسرائيلي الذي تبنى هذه الأفكار، عُرف بصفة «المؤرخين الجدد» الذين تميزوا بعد توقيع اتفاقيات أوسلو في تسعينيات القرن الماضي وأصدروا مؤلفات عديدة تضع تاريخ قيام الدولة الصهيونية في الإطار الصحيح. لكن كثير من أعضاء هذا التيار، الذي أخضع التأريخ الرسمي، الصهيوني، للمساءلة، لم يتمكن من الصمود حيث عُدَّ الأمر خيانة، فارتد منهم من ارتد، وحافظت قلة على موقفها العلمي، ومنهم الكاتب، لكنهم اضطروا لمغادرة «إسرائيل».
إيلان بابه يؤكد وجود رأيين متضاربين عن دولة العدو، أولهما يقول إنها تمثل الإرهاب والاضطهاد ومصادرة ممتلكات البشر والاستعمار والتطهير العرقي، وآخر يقول عكس ذلك. من منظور الكاتب، الخلاف ليس على إسرائيل نفسها بل على فكرة إسرائيل. المسألة الرئيسة في المؤلف إذن هي الأخلاقية التي تقف خلف فكرة تأسيس الدولة الصهيونية. خلف الرأيين، يتواجه معسكران. المعسكر المعادي للصهيونية والمعسكر الصهيوني. الأمر الخطير في طرح مسألة «فكرة إسرائيل» أن وجود يهود يشككون في أخلاقية فكرة الصهيونية يشكل أكبر تهديد للدولة. فالمسألة هنا ليست انتقاد هذه أو تلك من الممارسات، وإنما التشكيك في صحة الأسس التي قامت عليها الدولة.
إيلان بابه يقول أن أي فكرة يمكن تسويقها، لكن ذلك يحتاج إلى تعليبها ضمن رواية، لها بداية. وبداية رواية تشكيل الكيان الصهيوني تكمن في مبرر الوجود (raison d›être). فـ «الأمة اليهودية» الموجودة منذ الأزل وإلى ما بعد الأزل، ولدت كمفهوم مثالي، ولذا وجبت المحافظة عليها وحمايتها. الدولة يمكنها الدفاع عن نفسها عبر أدواتها العسكرية والاقتصادية والسياسية، لكن فكرة الدولة تحتاج إلى تسويق أكاديمي لا يمكن تنفيذه عبر القوة العسكرية أو الرشى. لا بد من وجود تسويغ يثبت عدالتها وصحتها. إذا كان بإمكان الفكرة ــ فكرة الوجود ــ شمل فرد ما أو إقصاءه من الدولة، وتحديد هويته أن كان صديقاً أو عدواً، وعندما يتم تداول الفكرة عبر عمل أكاديمي، أو بالأحرى شبه أكاديمي، فسيصعب على المرء تفادي الانتماء للفكرة، خصوصاً إذا كان الأخير مرفقاً بمجموعة من الامتيازات، الممنوحة إيديولوجياً.
لذا نرى أن إيلان بابه يتعرض في الفصل الأول من مؤلفه إلى التحدي الموجه نحو الرواية الصهيونية وخطابها. ولأن فكرة «إسرائيل» مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بفلسطين والفلسطينيين، فإن الكاتب خصص الفصل الثاني لموقعهما في الخطاب الصهيوني. الفصل الثالث خصصه للحديث في الرواية الصهيونية عن عام 1948 أكاديمياً وسينمائياً.
نقد «فكرة إسرائيل» ليس بالأمر الحديث، بل ظهر منذ ولادة الصهيونية السياسية، وهي، من منظوري الخاص، في الأصل الصهيونية المسيحية، ولذلك خصص إيلان بابه الفصل الرابع لتلك الانتقادات المبكرة.
الفصل الخامس يتعرض بإسهاب للعوامل التي قادت إلى ظهور ذلك الجدل بخصوص فكرة «إسرائيل»، التي تبلورت على نحو مكثف بعد عدوان عام 1967 وحرب تشرين عام 1973 حيث ساد الهدوء على حدود دولة العدو، ما أفسح في المجال أمام ظهور التناقضات التي تعصف بالمجتمع

زياد منى.

من نفس القسم الثقافي