الثقافي

"ليل الغريب".. العودة إلى سنين المحنة الجزائرية

 

 

يتناول الروائي الجزائري مراد بوكرزازة في رواية "ليل الغريب" الصادرة حديثا في طبعة ثالثة عن منشورات الألمعية بمدينة قسنطينة، مرحلة مهمة من تاريخ الجزائر المعاصر، تتعلق "بفتنة" سنوات التسعينيات من القرن الماضي، من خلال حكاية صحفي بالإذاعة يجد نفسه مجبرا على مغادرة البلاد بعد تلقيه تهديدا بالقتل، حيث يلتقي فنانة هاربة هي الأخرى. وبين الهرب والعودة وذكريات الطفولة والمصير المأساوي، تتشكل تلك القصة بلغة شعرية شفافة، لكنها تخفي واقعا دمويا ذهب ضحيته كثير من الأبرياء. وتبدو مدينة قسنطينة أكبر من مجرد مكان تجري فيه وقائع تلك الحكاية الحزينة، ففي لحظة يأس يقول الراوي على لسان بطله رشيد عيّاد: "سأغادر قسنطينة التي اغتالتني جدا، وأحببتها جدا، وأني بعد ساعتين وكفى سأكون في بلد آخر، تحت سماء أخرى ومع بشر أكثر رحمة". لكن ذلك الحقد سرعان ما يتحوّل إلى حب جارف يتسبب في مأساة كبرى، عندما يجد الهارب نفسه مجبرا على العودة إلى مدينته/حبيبته، بعد أن يكتشف عيّاد تلك الحقيقة المرعبة "يوم غادرت قسنطينة غادرت الدنيا، باريس التي خيّل لي أنها أحبتني من أول يوم، لم تفعل ذلك إلا سهوا".

بعض الحكاية

لم تكن لحظة هروب البطل رشيد عيّاد من قسنطينة بعد تلقيه تهديدات جدية بالاغتيال نهاية مأساته، بل بداية لها، وهو الذي كان يعتقد أن العيش في باريس بمثابة الملاذ، فقد اكتشف حبه الجارف لمدينته التي غادرها مكرها وفي لحظة السفر منها، ثم التقى المرأة التي أصبحت حبيبته وجمعتهما فصول قصة مأساوية، يجيد الروائي مراد بوكرزارة سردها بلغة شعرية منسابة تحافظ على رتم تدفّقها من البداية إلى النهاية. وبعد اختبار مرارة الغربة، يقرر رشيد عيّاد وحبيبته الفنانة "وردة" العودة إلى قسنطينة، حيث تتوطد العلاقة أكثر وتثمر زواجا ينتهي بفاجعة عندما يقتحم أشخاص ملثّمون بيتهما فيُخطفان، ويكتشف رشيد أن من بين المتسببين في مأساته شقيقه رضوان. ويبقى المخطوفان أكثر من عشرين يوما في أحد المخابئ الجبلية بمنطقة الشمال القسنطيني، ويُقدم الخاطفون على اغتصاب زوجته أمام عينيه واحدا وراء الآخر، وفي يوم يتمكن رشيد من الفرار بالتواطؤ مع أحد عناصر تلك الجماعة الذي هو أحد أبناء مدينته، ويقضى فترة من العلاج بتناول أدوية المجانين، لتخبره والدته وأخته أن شقيقه رضوان الذي تسبب في مأساته وجدوه مقتولا.

فيخفي عليهم الأمر تماما ويدّعي أنه كان مسافرا، ليعود من جديد إلى عمله الإذاعي مخاطبا مستمعيه بلغته الجميلة والحزينة ولا أحد يعلم شيئا عن مأساته تلك التي يعيد كتابتها من جديد، عودا على بدء، وكأن الفاجعة تتكرر في انتظار تهديد جديد بالقتل، ربما يعيده مرة أخرى إلى الغربة التي كانت قبل ذلك بداية لقصة حب انتهت بمأساة في جزائر تسعينيات القرن الماضي التي امتلأت بكثير من الحكايات من هذا القبيل، بعضها وجد من يكتبها وبعضها بقي دفين القلوب ومات مع أصحابه أو ما زال يصارع الصمت. "ما يزال المتن الروائي الجزائري يواصل تعاطيه مع أحداث تسعينيات القرن الماضي، التي أعقبت أحداث أكتوبر 1988، حيث سقط خلال عشرية من الزمن -سُميت "الحمراء"- حوالي مائتي ألف قتيل".

بعيدا عن "الأدب الاستعجالي"

وما يزال المتن الروائي الجزائري يواصل تعاطيه مع أحداث تسعينيات القرن الماضي، التي أعقبت أحداث أكتوبر 1988، حيث سقط خلال عشرية من الزمن -سُميت "الحمراء"- حوالي مائتي ألف قتيل، حسب إحصائيات شبه رسمية. ومعلوم أن تناول تلك الأحداث بدأ مبكرا ضمن ما أسماه البعض حينها بـ"الأدب الاستعجالي"، الذي يُذكّر بما كتب في فرنسا في أربعينيات القرن الماضي عندما كتب البعض نصوصا أقرب إلى التسجيلية، على غرار رواية "صمت البحر" لفيركور، وقال كثير من النقّاد في ذلك الوقت إن تناول أحداث تاريخية بذلك الحجم والتأثير في أجيال كاملة إنما يتطلب مسافة منها، وإلا تحولت تلك النصوص إلى مجرد انطباعات هي أقرب إلى الصحافة منها إلى الأدب.

ولم ينته الجدل إلا بمرور زمن طويل عن تلك الأحداث التي ما يزال كثير من الروائيين يتناولونها بأشكال مختلفة. وربما جاء نص "ليل الغريب" وغيره كثير في سياق رؤية "المحنة الجزائرية" تلك من منظار جديد، ففي الزمن الأول بدأ التسرع واضحا من كتّاب كأنهم في سباق ضد الزمن والموت يطاردهم، وقد اختلف الأمر الآن وتغيّرت اللغة وزوايا التناول حتى لمن كتبوا في تسعينيات القرن الماضي "أدبا استعجاليا".

عن الجزيرة نت


الخير شوار

 

من نفس القسم الثقافي