الثقافي

القهوة مدفوعة والبيتزا على «8»

 

 

في أيامنا الحالية حيث لا يفتأ الجميع يندِّدون بالافتقار إلى التضامن الإنساني، لا سيما في الغرب «البارد»، يظل من دواعي سروري أن أعود بذاكرتي إلى عادة تنتمي إلى الماضي، ولكنها عادت لكي تصبح موضة في السنوات الأخيرة. في نابولي كانت هناك عادة، كادت تختفي مع مرور الوقت، وهي عادة كان يطلق عليها «القهوة المدفوعة»، وكان البعض يسمّونها: «القهوة المعلقة». وأصل الحكاية يتعلق بطريقة تناول الإيطاليين للقهوة في «البار»، وهو الاسم الذي يطلقه الإيطاليون على نوع من المقاهي يتخصَّص بتقديم القهوة والمشروبات الساخنة أساساً، والباردة أيضاً، ولكنه يختلف عن المقهى الفرنسي أو الشرقي في أن الجلوس فيه نادر، وأن القهوة يتم تناولها وقوفاً في الغالب. وتناول فنجان القهوة يُعَدّ من الطقوس الإيطالية الحقيقية، وبصفة خاصة في مدينة نابولي، فعندما كان شخص يدخل البار لا يطلب قهوة لنفسه فقط، بل يأمر بفنجانين، يشرب منهما واحداً، أما الفنجان الثاني فيصبح متاحاً لأي شخص آخر يدخل البار، ويسأل برقة شديدة: «أود أن أسأل ما إذا كانت توجد لديكم قهوة مدفوعة؟» وفي العادة كانت ترافق هذا السؤال ابتسامة، وكان النادل يقدم إليه فنجان القهوة إن كان هناك زبون قبله قد دفع ثمن فنجانين بدلاً من واحد. بالطبع كان هذا الشخص يطلب هذا الفنجان لأن ظروفه الاقتصادية لم تكن تسمح له بالانغماس في مثل هذا الترف، وكل حلمه هو فنجان ساخن «منكمش» من القهوة الإيطالية المميزة، كما يحب أهل نابولي أن يتناولوا القهوة. وهو نوع من القهوة المركَّزة، ويتم تناوله جرعة واحدة، ولكن هذه القهوة التي يسمّونها «منكمشة» لها نكهة ورائحة خرافية، وتخفيفها بالماء كان في نظر أهل نابولي بمثابة ذنب لا يغتفر، أو جريمة. وأهل نابولي مجانين بهذه القهوة المنكمشة. وشيئاً فشيئاً اختفت عادة القهوة المدفوعة، وأصبح الجميع يذهبون إلى البار لتناول القهوة بسرعة كبيرة جداً، وغلب على الجميع الروتين اليومي الذي لا يشتمل على الوقت الكافي لندرك أن هناك أناساً ليس بمقدرتهم تناول فنجان من القهوة. في عام 2008 وضع كاتب نابولي الشهير (لوتشانو دي كريشينزو) كتاباً في هذا التقليد القديم بعنوان «القهوة المُعَلَّقة»، وفي عام 2011 قرر عمدة نابولي، أن يكون يوم 10 ديسمبر، تزامناً مع يوم حقوق الإنسان، «يوم القهوة المعلقة» بدعم العديد من السلطات والجمعيات. وفي عام 2012 تكوَّنت أيضاً منظَّمة غير هادفة للربح تحت اسم «قهوة» تسعى إلى استعادة هذا التقليد الخيري، من خلال حثّ الناس، لا سيما السعداء، على تقاسُم سعادتهم مع الآخرين، بتقديم فنجان قهوة لمن لا تسمح له ظروفه، أو ربما لم تعد تسمح له ظروفه، نظراً لتزايد «الفقراء الجدد» في كل مكان. اليوم هناك أزمة اقتصادية، واليوم تمتلئ شوارعنا بالعمال المؤقَّتين، والطلاب الذين لا يستطيعون إعالة أنفسهم، والمهاجرين من جميع أنحاء العالم، بشر صامتون يعانون. واليوم، حتى أولئك الذين كانوا يركضون على عجل في إيقاع حياتهم أصبحوا اليوم أكثر بطئاً، بل إن أكثرهم لا يعرفون إلى أين يذهبون، لأن الكثيرين منهم فقدوا وظائفهم، وكان من الطبيعي أن يفكر الجميع في استعادة هذه العادة النبيلة باعتبارها إنعاشاً للذاكرة الجماعية لجزء من البشرية لا يريد، ولم يعد يصحّ أن يبقى غير مبالٍ أمام متاعب غيره. فمرحباً بهذه المبادرات الصحية للتضامن، ولاستعادة ذاكرة لعادات مُشَرِّفة لشعب لم ينسَ أنه مَرَّ من قبل بفترات حالكة مثل هذه، عندما كنا في وطن البيتزا نشتري البيتزا «شكك». هذا حقيقي، فقد كان بعض طهاة البيتزا يبيعونها بالأجل، وكانت تسمى «بيتزا على 8»، مما يعني أن بإمكانك أن تدفع ثمنها بعد 8 أيام من أكلها. وعندما كان العميل يقصد مطعم البيتزا لتسديد ديونه، كان يأخذ «بيتزا على 8» أخرى، أي بيتزا آخر «شكك» يقوم بسداد ثمنها بعد 8 أيام أخرى، وهكذا كان دائماً مَديناً لصانع البيتزا. وهذا التقليد قد اختفى هو أيضاً اليوم، ولكن من يدري إذا كانت أوقات الأزمات مثل هذه سوف تشهد بعض صنّاع البيتزا المستعدّين لاستعادة هذه العادة النابوليتانية الأخرى. «القهوة المدفوعة» و«البيتزا على 8» هي فصول من الحب والثقة من بعض الناس للبعض الآخر الأكثر احتياجاً، نوع من موائد الرحمن، وهي من التقاليد النبيلة للمسلمين خلال شهر رمضان المبارك، يستعيدها أهل نابولي. ولكن كما كتب مغنٍ من نابولي من أعوام السبعينيات هو (بينو بينو دانييلي): «مرحباً بمبادرات التضامن هذه، ولكن ليس فقط في القهوة، لأن القهوة ترف، ولكننا نحتاجها في أشياء أخرى كثيرة». كانت أغنيته تقول: «فنجان من القهوة، ثم يجعلوننا لا نعرف شيئاً أبداً، نئنّ من الجوع، وهذا يعرفه القاصي والداني، إلا الأغنياء الذين بدلاً من مساعدتنا يجعلوننا نبتلع القهوة». 

 

إيزابيللا كاميرا

من نفس القسم الثقافي