الثقافي
أمريكا في الرواية العربية
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 29 سبتمبر 2014
قبل عقود كان اسم أمريكا، وربما لا يزال، عنواناً للشتم في التظاهرات والخطب والمواقف والتعليقات والمؤلفات، فنقرأ ونسمع عبارات مثل "أمريكا رأس الحية"، "أمريكا الشيطان الأكبر"، "الموت لأمريكا"، "الحلم الأميركي"، "الامبريالية الأميركية". منذ سنوات قليلة، تبدّلت هذه الصورة قليلاً، وأصبح اسم أمريكا يحضر في عناوين الروايات العربية. ازدادت وتيرة ذلك بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003 وانغماس الولايات المتحدة أكثر فأكثر في نزاعات الشرق الأوسط ومحاربة الإرهاب. تراوح أهداف الروايات العربية عن أمريكا وثقافتها، بين قراءة التاريخ والسياسة والمجتمع وبين ما حملته هجرة العرب إلى أمريكا من تحولات وما حملته الغزوات الأميركية في الشرق الأوسط من صدمات. أمريكا الرواية ليست بوجه واحد، بل بوجوه كثيرة وتشكل "ماركتينغ" أدبي لا بأس به في زمن الصراعات والهويات والانقسامات والثقافات الجديدة. شغلت أمريكا المتخيل السردي لبعض الكتاب العراقيين، وأصبحت مادة ثرية للحديث حول الهوية وكشف الستار عن العلاقة بين الشرق والغرب أو العلاقة بين المقيمين في العراق والعائدين من المنفى. المتخيل السردي العراقي لا يقف على سمت واحد، فهو أحوال فردية تعكسها مرايا الكتاب وثقافتهم. في رواية "الأمريكان في بيتي" لنزار عبد الستار مثلاً، يتطرق المؤلف إلى موضوع حسّاس يتمثل في الصورة الإيجابية للإنسان العراقي في ظل الوجود الأميركي في البلاد، مع ما يحمله حافز الاحتكاك بين حضارتين وما نتج عنه من صراع وهيمنة. تدور أحداث الرواية حول صحافي اسمه جلال ينتمي إلى إحدى المنظمات السرية العراقية، للقيام بأعمال خيرية وبدعم من الآباء الدومنيكان. يحاول الصحافي المحافظة على قلادة تاريخية تعود إلى الملكة شمشو زوجة آشور بانيبال، آخر ملك للامبراطورية الآشورية الحديثة. لكن وجود الأميركيين في بيت الصحافي هو أكثر الأعباء ثقلاً على نفسه، بعبثهم بكل شيء وانتهاكهم خصوصية كل شيء أما رواية "الغبار الأمريكي" للعراقي زهير الهيتي، فتفتح نافذة على ماضي العراق، وتعرّيه معدّدةً عيوب حكّامه وطغيانهم. مرويّات وحوادث وتداعيات تعيشها فاطمة بطلة الرواية، وهي امرأة مثقّفة تبحث عن كلّ شيء، وفي الوقت نفسه كادت تخسر كلّ شيء. تأخذها التجارب إلى أمكنة لم يسبق أن زارتها وإنْ في الحلم. تجارب أتاحت لها اكتشاف جسدها بعدما قادها القدر إلى أناس غرّروا بها إشباعاً لرغباتهم العطشى، أو غرّرت هي بهم كي تبلغ الهدف المنشود. تتطرق الرواية إلى ما حل بالعراق بعد الاحتلال الأميركي من انفلات أمني شمل كل مؤسسات الدولة حتى وصل إلى الأسرة نفسها. وخطر القتل والاختطاف التي تعايشها يومياً وتفشي عصابات القتل والسرقة المنظمة والمدعومة من دول كبرى في العالم. لم يكن أمام العراقيين إلا التعبير بالكتابة أمام هول ما جرى، ولم يكن سهلاً أخذ موقف في مرحلة تأرجحت بين شبح صدام حسين الطاغية وشبح الأمريكي الغازي. الكاتبة إنعام كجه جي توفر في "الحفيدة الأميركية" صورة أخرى لأمريكا إذ يتأرجح صوت "زينة"، بطلت الرواية، بين ماضي جدّها وجدّتها في الموصل، ووالديها في بغداد، وحاضرها وحاضر أسرتها الهاربة من قمع نظام صدّام إلى أمريكا. تحاول زينة تبرير وضعها كفتاة عراقية تعمل مترجمة للأميركيين الذين يحتلون بلدها، لكن تبنيها لهويّة أميركية - عراقية مزدوجة يمزقها ويجعلها تعيش شروخًا عميقة في نفسها بعد أن تقرر العودة إلى الولايات المتحدة على أثر وفاة جدتها. تمثّل هذه الرواية محاولة لاستكشاف المعاني المركبّة لمفهوم الهوية، من خلال تقديم مقاربة سردية للاحتلال الأميركي للعراق. إذ كان الكتّاب العراقيين وظّفوا المتخيل السردي لتقديم صورة عن مأثر الغزو الأميركي للعراق، فاللبنانيون عالجوا موضوع الهجرة إلى أمريكا وما حملته من تداعيات حول الناس والهوية. كتب ربيع جابر رواية "أمريكا" وفيها يرصد مسار حياة مرتا حداد التي ترتحل في العام 1913 من قريتها اللبنانية الجبلية "بْتاتر"، بحثًا عن ابنها وزوجها الذي انقطعت أخباره بعد زواجه منها ورحيله إلى أمريكا. عندما تصل تلمح تمثال الحرية المنتصب على الأطلسي، تخاله العذراء مريم، فتتمتم صلاتها الخائفة. وتبدأ رحلة الاغتراب لتصطدم بحقيقة غياب الزوج واختفائه من نيويورك التي قيل لها إنه كان يسكنها، ثم عيشِه في كنف امرأة أميركية ثرية. وهو ما يدفعها إلى الامتناع عن لقائه حين تراه من بعيد جالسًا مع عشيقته الأميركية. بعد سنوات طويلة، نراها في كالفيورنيا ثرية ومحاطة بأبناء وبنات وأحفاد. المسعى الأساسي للعمل هو تصوير الرحلة المنهكة التي تقوم بها امرأة شرقية من دون معين، في الجغرافيا الأميركية. اختارت هالة كوثراني في رواية "علي الأمريكاني" أن تتحدث عن شخص عائد من الهجرة. عالجت قضايا الهوية في وطن وزّع أبناءه بين المنافي الخارجية والداخلية. تشكل عودة علي من أمريكا الحدث الذي منه انبثقت أحداث الرواية. فبعد أن تلتقي الراوية شيرين حبيبها الأول علي العائد من الهجرة، صدفةً، تعقد معه اتفاقاً يقضي بأن يُساعدها في تنفيذ مشروع حياتها بأن تُصبح كاتبة. هكذا يعودان إلى جنوب لبنان حيث تسهل عملية التذكّر في المكان المتصّل بالجذور والطفولة، بفترة ما قبل الحرب والمنفى. يصبح البيت المهجور، ملاذ علي الذي تطارده شيرين لتنسج حول حياته أحداث روايتها الأولى. تتقاطع رغبة شيرين في الكتابة مع ذاكرتها الخصبة وتعلّقها ببيت العائلة، ومع أسئلة الماضي الذي تلوح فيه ملامح الحرب اللبنانية. رواية "حي الأمريكان" للروائي جبور الدويهي، لا تتعلق بالهجرة أو المنفى أو الغزو الأميركي، بل هي عن مدينة لبنانية تعيش شبح الفكر الجهادي التكفيري. حين نقرأ عنوان الرواية يتراءى لنا أننا سنقرأ عن حيٍ راقٍ ومميز، لنكتشف أننا ندخل حياً مغموساً بالفقر ويتوهم بعض ناسه من الجهاديين، أن لديهم قدرة على تغيير العالم. يربط الدويهي النص بالفضاء المديني، إذ يختصر حيّ الأمريكان نبض المدينة عبر الزمن، ومن رحمه يخرج إسماعيل محسن ليجد نفسه مجنّداً للقتال في العراق، ومن ثمّ مطلوباً بصفته إرهابيّاً يتبع تنظيم القاعدة. هي لعبة التناقض في أن يولد الجهادي في حي الأمريكان وهنا سر الحبكة في رواية الدويهي. مصر تبدو أقل اهتماماً من لبنان والعراق في استخدام أمريكا في عناوين الروايات. رواية "أمريكانلي" صنع الله ابراهيم مختلفة نسبياً عن الروايات المذكورة أعلاه، تعكس الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية للمجتمع الأمريكي. بطل الرواية الأستاذ في التاريخ المقارن الذي اختار المنفى المؤقّت هرباً من جوّ جامعة القاهرة الخانق بعد أن بات يحاصره نتيجة أبحاثه المجددة في تاريخ الإسلام، يقارن بين حياته في القاهرة وتلك في سان فرانسيسكو. تظل العلاقات التي يعقدها الأستاذ مع زملائه وتلامذته ومحيطه غير مكتملة ولا تخفف عنه وحدته بل تزيد من إحباطه العاطفي والجنسي. لا شك أن الكتابة عن أقنعة أمريكا في الرواية، هو جزء من موجة مواضيع يتّبعها الكتاب عادة، فبعد نهاية الحرب الأهلية اللبنانية انشغل الكثير من الكتاب اللبنانيين والأجانب بمأثر الحرب، وبعد 11 أيلول صار الإرهاب هاجساً "موضوياً" في الرواية العربية والعالمية، والأمر نفسه ينطبق على "الثورات العربية".