الثقافي
الجوائز المعنوية
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 27 سبتمبر 2014
منذ عدة سنوات، كتبتُ عما أسميتها "الجائزة المعنوية الكبرى"، تلك التي حصل عليها المبدع الكبير الراحل غازي القصيبي في أخريات حياته، حين تزاحم أكثر من ستين كاتبا وشاعرا وناقدا من الوطن العربي ودول أخرى عديدة لتحيته ومناقشة إبداعه الغزير المتنوع في ملف خاص أصدرته جريدة الجزيرة السعودية بإعداد الزميل عبد الكريم العفنان، وتمنيت آنذاك أن تعمم تلك الجوائز المعنوية على كل المبدعين الذين أنفقوا أعمارهم في الكتابة بلا أي عائد مادي أو معنوي كبير، ورحلوا من دون التفات كبير نحوهم، خاصة أن تلك الجائزة لا تتطلب لجان تحكيم مختلفة الأهواء تتذوق كتابة هذا ولا تتذوق كتابة ذلك، تحب هذا وتكره ذلك، أو اجتماعات تشاورية مكثفة تعقد وتنفض ولا تتوصل إلى اتفاق إلا بعد زمن طويل. كل ما في الأمر هنا، أن تطلب شهادة بسيطة من صديق أو زميل للكاتب أو ناقد، أو حتى قارئ عادي، فيمنحها من دون تعقيد، مثلما فعلنا مع القصيبي، وكان أغلبنا لا يعرفه شخصيا ولم يلتق به إلا من خلال أعماله فقط.
رسالة قارئة
تذكرت ذلك، حين عثرتُ في بريدي على رسالة لم أنتبه لها من قبل، وسط تلك الرسائل التي لا تنقطع، ومعظمها طلبات من كتاب في بداياتهم، يسألون عن أشياء خاصة بالكتابة، لا يملك أحد إجابتها، ولعل الزمن وحده من سيجيب عليها في النهاية. كانت الرسالة من قارئة تفاعلت مع مقالي عن الجائزة المعنوية، ولعلها فهمت منه أنني أحاول أن ألفت الانتباه إلى جيلي الكتابي، أي جيل أواخر ثمانينيات القرن الماضي وبداية التسعينيات، ذلك الجيل الذي لم يحظ بتأطير جيد لإبداعه ولم تكتب في حقه الدراسات الكبيرة إلا نادرا، كما أن ترجمة إبداعه إلى اللغات الأخرى قليلة إلى حد ما، ولم يحظ بها سوى قليلين من أبنائه، وبالتالي لم تتعرف إليه الجوائز المادية المتعددة التي أنشئت أخيرا في الوطن العربي، وتمنح في الغالب لمبدعين من أجيال سابقة، إما قرئوا واستوعبوا جيدا من قبل الناس، وإما خبراء في معرفة الدروب التي تقود إلى تلك الجوائز. واختتمت القارئة حديثها أو رسالتها الطويلة بقولها: إن تلك الجوائز المعنوية التي أقصدها، لن تكون سهلة الحصول أيضا، وإنها ستبدأ في الغالب بأولئك الذين حصلوا على الجوائز المادية أولا، ثم تعرج على أبناء جيلي والأجيال اللاحقة، بعد أن يكونوا قد شاخوا وتهدم إبداعهم. كلام القارئة التي اسمها "سهى" كما ذكرت، والتي تقرأ الشعر والرواية وتكتب القصة أيضا، محبط جدا ويزيد الجو المحيط بالإبداع في الوطن العربي كآبة على كآبته القائمة. إنها هنا لا تتحدث عن الإبداع الذي يفترض أن يكون هو القول الفصل والمرجع النهائي في مسألة التكريم، سواء أكان تكريما ماديا بجائزة جيدة، أو معنويا بحشد الأقلام لتحية الكاتب وإسعاده معنويا كما حدث مع الراحل غازي القصيبي، لكنها تتحدث عن طرق أخرى لا أعرفها شخصيا، ولا أظن الكثيرين من زملائي يعرفونها. ونحن -أعني من انشغلنا بالكتابة، وأصبحت من همومنا الرئيسية- في الغالب حين نكتب، لا نضع نصب أعيننا جائزة مادية محددة، أو انتشارا لا محدودا سيحدث لكتابتنا، ولكن فقط نكتب، تحت كل الظروف، في السراء والضراء نكتب. وأنا شخصيا لو استطعت إلغاء فعل الكتابة ولغتها من الدم، لفعلتُ بلا شك.. وتأتي لحظة الإحباط أو كره الكتابة حين نرى الجوائز المادية والمعنوية تتراكض على إبداع أقل شأنا مما قدمناه، ولا تمسنا.. في تلك اللحظات فقط، نفكر ونعيد التفكير، ودائما لا نحصل على إجابة شافية لأسئلة الذهن الحادة المتكررة.
نوبل معنوية
تقول القارئة المنفعلة: إن من الأفضل أن لا تكون ثمة جوائز، لا مادية ولا معنوية ولا غيرها في الوطن العربي الذي ما يزال بعيدا عن توخي الدقة في تعامله مع الإبداع، ولا يميز مثقفوه أو قراؤه بين الجيد والرديء، حتى لا يتسرب الإحباط إلى الأقلام المبدعة، ومن ثم تتوقف عن الكتابة، أو تتطلع بأعينها نحو دروب ملتوية بعيدة عن الإبداع. أقول لتلك القارئة صاحبة الرسالة العابسة في زمن صعب حقيقة، إن الأمر ليس كذلك في رأيي الشخصي، وما تعتبره هي إغاظة للإبداع الحقيقي ومحاربة له، هو في الواقع اختلاف آراء لا أقل ولا أكثر.. ما تراه جيدا أراه أنا غير ذلك، وما أراه يستحق التكريم يراه غيري لا يستحق حتى ابتسامة ودودة. أما الجوائز المعنوية فهي ليست أمرا عسيرا على الإطلاق، ودائما ما يوجد ثمة محبون لأي كاتب أو شاعر مهما كان صغيرا، في مقدرتهم أن يمنحوه "نوبل" معنوية شبيهة بتلك التي حصل عليها القصيبي، وقد شاهدت في مرات متعددة شعراء وكتابا يقدمون لي من قبل محبيهم بأنهم مبدعون كبار، ولا أكون قد سمعت بأسمائهم من قبل أبدا.