الثقافي
ﺛﻮرات اﻟﺮﺑﻴﻊ اﻟﻌﺮﺑﻲ ﺗﻔﺮك ﻣﻌﺎدن اﻟﻤﺜﻘﻔﻴﻦ وﺗﻬﺪد 'اﻟﻨﺠﻢ' ﺑﺎﻷﻓﻮل
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 23 سبتمبر 2014
مرحلة جديدة تعيشها ثقافة الربيع العربي بدأت مع أفول المثقف النخبوي الذي يخاطر من أجل مواقفه، مثقف يتمرد على أيديولوجيا السلطة.
إدوارد سعيد وأدونيس مثقفان على طرفي نقيض
تباينت مواقف المثقفين والمبدعين العرب والسوريين من الثورة السورية ما بين مؤيد لها ومعارض، بيد أن ما فاجأ الجميع وأربكهم هو موقف بعض المنظرين الماركسيين الذين كانوا نجوما خلال ستينات القرن العشرين، وعرفت عنهم جرأتهم النقدية وتنظيرهم للتغيير، حيث انقلبوا على مسارهم وتناقضوا مع مجمل ما قدّموه من معطى نظري وفكري. وبالمقابل، لم تدهشنا مواقف البعض التي أتت منسجمة مع تقلباتهم الفكرية والسياسية. دفعت خيبات الأمل التي ولدتها مواقف عدد من المثقفين إلى محاولة البعض استنطاق الراحلين عن دنيانا فيما إذا كانوا مؤيدين أو مناوئين للثورة على ضوء ما خلفوه من كتب ومؤلفات، وكأن الثورة أصبحت مرآة كاشفة ومحكا حقيقيا لأصالة وصدق الانتماء لفكرة التغيير، والسؤال الذي بات يطرح نفسه هو: ما الذي حدا بهؤلاء المثقفين ودفع بهم إلى تبني مواقف مناهضة للثورة السورية، وعلى أيّ أساس تم تبني تلك المواقف؟
أرجوحة أدونيس
يجوز التبرير لمفكر وشاعر كأدونيس مناهضته للثورة، لا سيما وأن المطلع على مساره الطويل سوف يلحظ مواقفه وتناقضاته وتقلبه الدائم، ولربما تأتي الإجابة من المفكر الشهيد مهدي عامل، الذي عرّى فكره ومنهجه في مرحلة خلت، حيث كان أدونيس، وكما يقول مهدي، يميل إلى حصر ظاهرة تحرك الصراع الاجتماعي في شكله الرئيسي كصراع ديني في مجتمعاتنا العربية، دون تمييزها من حيث أنه يفسر الديني بالديني من موقع الدين نفسه، وهكذا يتجوهر الإنسان والتاريخ والمجتمع ويميل الفكر عنده مع الحدث كيفما مال به الحدث، ويتأرجح بتأرجحه، فيقول شيئا ثم يقول في الغد نقيضه، وكذا ينزلق إلى مواقع الفكر المسيطر حتى حين يصبو إلى نقده وتتجاذبه تيارات الحقل الأيديولوجي، وكأنه بلا موقع يحتار ويتردّد. يقول أدونيس شيئا ثم يقول في الغد نقيضه، وينزلق إلى مواقع الفكر المسيطر حتى حين يصبو إلى نقده هذا التوصيف من مهدي لا ينطبق على أدونيس وإنما على كثير من المثقفين، الذين انطلقوا بتحليلاتهم للأمور من مواقع ثقافوية، كي يبرروا مواقفهم المناوئة للثورة. بحيث تحول البعبع الإسلامي إلى خصمهم الأول، ما جعلهم يبررون الاستبداد ويمنحونه شرعية، على اعتبار أنه نظام علماني، وكأنهم يخفون طائفية مقنعة، متغافلين عن أن سبب تفريخ الإسلاميين وانتشارهم يعود بالدرجة الأولى إلى أنظمة الاستبداد التي تديرها زمرة مافياوية عائلية، جهدت لتحوّل ثورة الشعب إلى صراع طائفي.
أفول المثقف
يحضرني في هذا الشأن من كتاب “الشعب يريد.. تحليل جذري للانتفاضات الشعبية” للمفكر جلبير أشقر قوله: “ليست طائفية النظام ذات طبيعة دينية بل هي عصبية بمعنى أن العشيرة الحاكمة تستند إلى العصبية العلوية واستطاع أن يجند العشيرة حتى يضمن ولاء النواة الصلبة، أي قوات النخبة والجيش النظامي”. ما نودّ قوله إن النظام وبتركيبته العصبوية عمل على إظهار الثورة وكأنها ثورة إسلاميين مع دعم بعض الدول الاقليمية أيضا، وللأسف وقع المثقفون عن عمد أو غير عمد في هذا الفخ. أما الفريق الآخر من المثقفين فما يزال يبرر دعمه للنظام على اعتبار أنه نظام ممانع ومقاوم ووطني، والمدرك لطبيعة النظام الذي تديره طغمة مالية عائلية، سيق على كونه متحالف مع عدو الوطنية، وهي الأمبريالية، الصديق الأول لإسرائيل في المنطقة.
جلبير الأشقر: النظام يجند العشيرة ليضمن ولاء النخبة والجيش النظامي
هذه الطغمة وعبر سنوات حكمها، أفقرت الشرائح الدنيا عبر سياسات “اللبرلة الاقتصادية” التي انتهجتها، مع العلم أن هذه الشرائح هي المعنية بالمسألة الوطنية، لأنها لا تفصل في نضالها بين الوطني والاجتماعي والسياسي، على عكس النظام الذي استخدم “أدلوجة الممانعة” حتى يغلف سياسة النهب والإفقار، ويتم تكريسه كحاكم أبدي دهري. بناء على ما سبق، يمكن القول إن زمن مثقف الستينات قد انتهى، مثقف الحتميات التاريخية، وكذلك المثقف التقني الذي ينظر إلى العمل الثقافي باعتباره شيئا يؤديه لكسب الرزق، وغالبا ما يؤتمر من السلطات والحكام، هذا المثقف الذي يكتب لنفسه من أجل المعرفة الخالصة أو العلوم المجردة لن يصدقه أحد ويجب ألا يصدقه أحد على حد تعبير إدوارد سعيد، الذي أقام تمايزا رائعا بين المثقف المحترف والهاوي، هذا الأخير الذي لا تحفزه مكافآت أو فائدة، بل يدفعه الاشتباك بالأفكار والالتزام مع مرور الوقت إلى عالم سياسي منحاز إلى قضايا الشعب وقضايا التغيير والتحول الاجتماعي. إذن، وفي النهاية، نوجز لنقول بأننا نشهد مرحلة أفول المثقف النخبوي، التقني النرجسي لصالح ولادة مثقف عضوي، هامشي، هاو، مغامر وجريء، يكون على استعداد ليخاطر بكيانه كله من أجل اتخاذ موقفه الحساس والجهر به على الملإ، إنه موقف الإصرار على رفض الصيغ الجاهزة والسهلة، والتمرّد على كل ما يقوله ويفعله أصحاب السلطة وذوو الأفكار التقليدية، كما جاء على لسان إدوارد سعيد.