الثقافي

قراءة سينمائية لفيلم يَمّا

 

رائعة سينمائية، تجعل من قصة عائلة، وثلاثة ممثلين في بيت معزول بريف الجزائر، قصة تمتد على مساحة الإنسانية والوطن. إنه ”يمّا“ الفيلم الروائي الطويل الثاني للمخرجة والممثلة الجزائرية جميلة صحرواي. يُفتتح الفيلم بمشهد إمرأة تدعى وردية (جميلة صحراوي)، تجرُّ خلفها جسد إبنها المقتول. مع صوت نَفَسها المتصاعد، وسط طريق وعرة، نرافقها حتى بيتها، في طريق الألم والحزن. لوحده، يتوسط بيتها منطقة واسعة في ريف الجزائر. هنالك تغسل الأم جسد إبنها، وتحضره للدفن. في أرض خلف الدار تحفر قبراً، وتودعه. كان ضابطاً في الجيش الجزائري، قُتل في معركة مع إحدى الجماعات الإسلامية الجزائرية التي يقودها إبنها الثاني ”علي“ (علي ظريف). تلك هي حبكة الفيلم الأساسية: أمٌّ تدفن إبنها المقتول على يد إبنها الثاني. حبكة تعيدنا إلى التراجيديا الإغريقية، حيث تتصارع المشاعر، ويصعب تحديد المواقف الواضحة ما بين الشخصيات. حيث تجد الشخصيات مجبرة على التعايش مع وجعها القريب منها، والذي هو جزء منها. أوديب يقتل أباه، ويتزوج أمه. ميديا تقتل أولادها انتقاماً من رجلها. وردية تدفن إبنها البكر، وتتهم إبنها الآخر بقتله، ولكنه في نهاية الأمر الذي تبقّى لها. أمّا الإبن فيحاول أن لا يخسر أمَّه، ولكنه يصطدم معها بالذنب والعقائد الدينية والحرب. في تلك المنطقة المعزولة، يضع علي حارساً (سمير يحيى) على والدته. شاب من فصيلته، فقد ذراعه خلال المعارك. علاقة متشنجة سوف تنمو ما بين ورديّة والشاب في البداية، لكنها سوف تتلطف مع مرور الوقت. بعناد، وجهد كبير، سوف تقوم وردية بمحاولة زرع أرضها الجافة، لإعادة شكل من أشكال الحياة إلى محيطها وإلى حياتها. في أحد الأيام وبعد صدامات متتالية مع الحارس، سوف تجد المياه تتدفق إلى حقلها إثر مدّها عبر مولد كهربائي، جلبه الشاب الحارس لا غير، لمساعدتها. لحظة سوف تكرس بداية علاقة جديدة بين الثنائي. تدعو ورديّة الحارس لدخول البيت، شرط أن يترك بندقيته خارجاً، فتشاركه العشاء، وتحضر له غرفة لينام فيها، إذ كان يبيت في الحظيرة قبل ذلك. هكذا سوف تجد وردية في هذا الحارس إبناً جديداً. لكن علاقتها بعلي سوف تتدهور أكثر كلما التقيا، خاصة بعد أن تزوج إمرأة إبنها البكر، وتوفيت وهي تضع ولداً، لتتهمّه بقتلها هي أيضاً بعدما قتل أخاه. لكن رغم ذلك، سوف تقبل الاعتناء بحفيدها وتربيته. طفل يخلِّد ذكرى إبنها البكر، ويعيد لها الأمل والإيمان بالحياة. تمر الأيام، وتنمو العلاقة بين وردية والحارس مع نموّ الولد، إلى اليوم الذي يصل فيه علي ليلاً إلى المنزل، مصاباً برجله. هنا تتجلى في فيلم ”يمّا“ أجمل لحظاته. صراع الأم ما بين قسوتها على إبنها، وحنانها عليه. تلعب جميلة صحراوي دوراً رائعاً في تظهير صراع المشاعر تلك عبر تعابير وجهها، ونظراتها، وحركة جسدها الذي أثقلته الأحزان. هكذا نتابع أحداث الفيلم ما بين لحظة مرونة، تتبعها القسوة، وفورة الإبن وألمه النفسي والجسدي. علاقة لن يبقى الحارس خارجها، بل سوف يصبح جزءاً من تجاذب أطراف العائلة، ما بين الأم والإبن، إلى أن يضطر إلى اتخاذ موقف حاد منهياً تلك المأساة. جميع تلك الأحداث، وعبر ثلاثة ممثلين، اختارت جميلة صحراوي أن تقدم رائعة سينمائية غارقة في الصمت، مع القليل القليل من الحوارات المترجمة بكلمات. لا بل تركت شخصيات فيلمها تعيش مأساتها في الصمت، في قلة التواصل مع الآخر. حتى التواصل اختصرته بنظرة، أو حركة جسد أبلغ من الكثير من الكلمات. قد تكون كلمة ”يمّا“ التي اتخذتها عنواناً أكثر كلمة مسموعة في الفيلم. إنها اللحظة التي يصرخ فيها علي مراراً، متألماً وبردان على عتبة البيت ليلاً: يمّا. صرخة يطلب عبرها مساعدة أمّه، ورحمتها، وغفرانها لعلها تخفف عليه وجع الجسد والروح. أما باقي الفيلم فيلقي بالإنسان وحيداً وضعيفاً في وسط الطبيعة الواسعة الجبارة. مفردات وجدت لها جميلة لغة سينمائية ترجمتها في حركة الكاميرا البطيئة، واللقطات الطويلة النفس. نجحت جميلة صحراوي في فيلمها ”يمّا“ في أن تعكس آلام الجزائر عبر آلام وصراع عائلة، بأفرادها الثلاثة. أرادت أن لا تقول الكثير، ولكن ”يمّا“ فيلم يشعرنا بالكثير. جميلة صحراوي من مواليد 1950 في تزمالت، الجزائر. انتقلت إلى العيش في باريس منذ عام 1975، حيث درست في ”المعهد العالي للدراسات السينمائية“ وباشرت في صناعة الأفلام الوثائقية. في عام 2006 قدمت ”بركات“ أول فيلم روائي طويل لها، الذي شارك في مهرجانات سينمائية دولية عدة، ونالت عنه جائزة المهر العربي في مهرجان دبي السينمائي. أما إنتاجها الجديد ”يمّا“ فقدم في مهرجان البندقية السينمائي. 


بقلم: روي ديب


من نفس القسم الثقافي