الثقافي

هكذا كتب ماركيز رائعته 'وقائع موت معلن'

 

 

ماركيز فيما هو يكتب انتبه إلى أن الواقع المباشر يختلف عن الواقع الذي كان بصدد تصويره حتى أنه كان أحيانا يقول لنفسه بأن الحياة قد تكون من اختراع الذاكرة. 

في مطار هواري بومدين اكتشف ماركيز الخيط السري لروايته 'وقائع موت معلن'

في نصّ بديع نشرته “المجلة الأدبية” الفرنسية في عددها الصادر مطلع شهر ¨جوان الجاري 2014، يروي الرّاحل غابريال غارسيا ماركيز تفاصيل الطريقة التي كتب بها “وقائع موت معلن” التي تعدّ من أروع أعماله الروائية. في بداية نصّه، يشير ماركيز إلى أنه كان مرتبطا بعلاقة صداقة متينة بسانتياغو نصّار، وهو شاب محبّ لملذّات الحياة، وعضو بارز في الجالية العربيّة. وذات يوم، كان ماركيز مستسلما لنومة القيلولة لما دخلت عليه أنجيلا ماكاريو وهي عارية تماما لتصرخ في وجهه ملتاعة: “لقد قتلوا حبيبي!”. 

وفعلا كان إخوتها قد قتلوا عشيقها السريّ سانتياغو نصار بطعنات من سكاكينهم أمام أهل القرية بعد أن اكتشفوا علاقتها به. وكانت هي قد طلّقت ليلة زفافها بعد أن اكتشف زوجها باياردو سان رامون أنها لم تكن عذراء. وفي الحين شرع ماركيز الذي قرّر أن يكون كاتبا أو لا يكون في التفكير في كتابة رواية من وحي تلك الجريمة المروّعة. غير أنه كان عليه أن ينتظر 23 عاما لكي يفعل ذلك! وعلى مدى السنوات المذكورة، لم يكن ينقطع عن الحديث عنها. وقد رواها في البداية لصديق له في محلّ للبغاء تديره سيّدة سوداء. وقد نصحه صديقه هذا بالتريّث في انتظار أن تنضج القصة في ذهنه بما فيه الكفاية. وقام صديق له في المكسيك بتسجيلها بصوته. 

رجل يشبه شجرة

وفي قرية بائسة في الموزمبيق رواها لصديق آخر له. والاثنان كانا مدعوين للعشاء من قبل كوبيين. وفي النهاية انتبها إلى أنهما أكلا لحم كلب قدّم لهما من قبل مضيّفيهم على أنه لحم غزال! وكانت وكيلته الأدبية كارمن بالسالس تبكي دائما لمّا يرويها لها سواء في الطائرة، أو في القطار، أو في فندق فاخر في برشلونة. 

ماركيز والفارو موتيس كان الأخير قارئه الأول

والوحيد الذي لم يرو له ماركيز تلك القصة هو ألفارو موتيس، الصديق الأقرب إلى نفسه، والذي كان أول من يتكفل بقراءة أعماله بعد اكتمالها. وذات يوم أعلمه صديق له يدعى ألفارو سيبيدا ساماديو أنه علم أن أنجيلا فيكاريو عادت لتعيش مع مطلقها باياردو سان رامون في قرية “مانور”. وفي الحين، انطلق ماركيز للبحث عنهما. وهو يشير أن هناك قريتين بنفس الاسم رغم الاختلاف بينهما. الأولى بشارع طويل، ومنازل متشابهة. وهي تقع على مرتفع أرضي أخضر يلفه صمت مهيب. ويذكر ماركيز أن والدته كانت في صباها تتردد على هذه القرية للاستفادة من هوائها المنعش. وعندما كان ماركيز يشرب بيرة مثلجة في الحانة الوحيدة في تلك القرية، اقترب منه رجل “يشبه شجرة”، من خاصرته يتدلّى مسدس. وكانت له هيئة فارس من فرسان المعارك. وهو يدعى رافائيل أسكالونا. ومع هذا الرجل الذي يعمل مهرّبا، والذي كان جدّه قد قتل في الحرب الأهلية من قبل جده الآخر، أمضى ماركيز والمهرّب ثلاثة أيام، وثلاث ليال لم يكفّا خلالها عن الحديث والشراب وأكل لحم الماعز الطريّ. بعدها أوصله الرجل إلى قرية “مانور” الثانية. وفيها عثر على انجيلا فيكاريو. 

البحث عن القصة

وفي نصه، يصفها على النحو التالي: “في النافذة، امراة في نصف حداد، بشعر أصفر، ونظّارتين بحاضنتين معدنيّتين كانت تطرز بالآلة في الساعة الأشد حرارة. فوق رأسها قفص فيه كناري لم يكن يكفّ عن الغناء. وناظرا إليها وهي في مثل ذلك الإطار البديع، لم أرغب في أن أفكر بأنها هي رافضا أن تنتهي الحياة بأن تكون شبيهة إلى حد كبير بالأدب السخيف. مع ذلك كانت هي: أنجيلا فيكاريو بعد مرور 23 عاما على المأساة”. وكان على ماركيز أن يعود مرتين إلى تلك القرية ليجمع خيوط القصة، ويرتب تفاصيلها. 

وفي المرّة الثانية شرع في الكتابة في القرية المذكورة من الساعة التاسعة إلى الساعة الثالثة ظهرا. وكانت الغرفة التي يكتب فيها بائسة ليس فيها غير سرير حديديّ، وطاولة قديمة عرجاء. وكان الذباب يزعجه طوال الوقت. ومن الميناء، تنبعث روائح المياه المتعفّنة. 

اختراع الذاكرة

وفيما هو يكتب انتبه إلى أن الواقع المباشر يختلف عن الواقع الذي كان بصدد تصويره حتى أنه كان أحيانا يقول لنفسه بأن الحياة قد تكون من اختراع الذاكرة! وأثناء الكتابة، التقى بالدكتور ديونيسيو أغواران الذي كان الطبيب الوحيد عندما ارتكبت الجريمة المذكورة. وهذا الأخير هو الذي نبّهه إلى أن تشريح جثة سانتياغو نصار لم يقم به طبيب وإنما قسّ أسباني يدعى كارمن أمادور. 

وسيعثر ماركيز على هذا القس فيما بعد في ضواحي برشلونه وقد شاخ وتعب، غير أنه ظلّ محتفظا بذاكرة قوية. ثم انقطع ماركيز عن الكتابة منتظرا عنصرا جديدا يلهمه لإنهاء القصة. وفي يوم جميل من أيام خريف 1979، كان بصحبة زوجته مارسيدس في الصالون الشرفي بالجزائر العاصمة منتظرين إقلاع الطائرة لمّا دخل أمير عربي كان يرتدي جلابية بيضاء، وعلى قبضته صقر صيد. وفي الحين تذكر ماركيز صديقه سانتياغو نصار الذي كان قد تعلم من والده فنّ الصيد بالصقور. وفي الطائرة، أدرك ماركيز أنه أمسك بالخيط الأخير للقصة. لذا عليه إنهاؤها بأقصى سرعة. ويختم صاحب “وقائع موت معلن” نصه بهذه الطرفة: في الحوار التاريخي الذي أجراه معه جورج بليمبتون، والذي نشرته “ذو باري ريفيو”، سئل همنغواي إذا ما كان باستطاعته أن يقول شيئا بشأن الطريقة التي بها يحوّل شخصية واقعية إلى شخصية روائية، فأجاب قائلا: “إذا ما أنا قمت بتقديم تفسير لهذا فسيكون هذا التفسير بمثابة مرشد للمحامين المتخصّصين في قضايا السلب!”. 

من نفس القسم الثقافي