الثقافي
واسيني الأعرج: الحرية صديقتي والسياسة لا تهمني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 10 سبتمبر 2014
يرى الروائي الجزائري واسيني الأعرج أن الرواية العربية مست معضلات المجتمعات العربية كالصراعات الطائفية والتاريخية، وأنها عالجت بتقنية عالية قضية الأكراد والشيعة والسنة والعلاقات الإنسانية والدكتاتوريات التي ترسخت في نصف القرن الماضي.
وقال الأعرج في حوار خاص للجزيرة نت إن ما سمي "الربيع العربي" أصبح جزءا من انشغالات النص الإبداعي، لافتا إلى أن الرواية خرجت من ضيق الرؤية ومن دائرة السياسي للإنساني، وهناك الكثير من النصوص يمكن وضعها في مواجهة أي نص عالمي لأن تقنياتها المستعملة والقضايا المثارة لا تختلف عما هو موجود عبر العالم.
وفي ما يلي تفاصيل الحوار:
* لماذا تتكئ في نتاجك الأدبي على التاريخ الذي يحتاج إلى مراجعات نقدية؟
- أنا أنطلق من فكرة أن التاريخ هو تاريخ المنتصر، ومن يكتبه هو الذي انتصر على غيره، وبالتالي سيكتب تاريخا على مقاسه، لذا أستطيع القول إن الرواية تملك طاقة لا يملكها التاريخ، أي أنها تعيد ترتيب الأشياء وتركيبها بالطريقة التي تختارها.
في التاريخ العربي يزداد الأمر تعقيدا، إذ نملك كروائيين إعادة قراءة التاريخ قبل أن نأخذه كمادة منجزة لنخرج برؤية خاصة لا تملك جديتها وقوتها وموضوعيتها إلا إذا وضعت الحقائق التاريخية في مواجهة بعضها البعض في صياغات مختلفة تمكّن الكاتب من الاستقرار على الصيغة الأكثر منطقية وإقناعا حتى ولو أدى ذلك إلى الاصطدام مع الحقيقة التاريخية الرسمية.
هذا ما حدث في رواية "الأمير"، حيث وقعت في صراع مع المؤسسة الرسمية والأفراد الذين كونوا صورة عن الأمير عبد القادر الجزائري ليست دائما هي الصورة المنطقية والحقيقية.
الشيء نفسه حدث في رواية "رماد الشرق"، إذ أعدت النظر في العلاقات الدولية والمحلية التي صاحبت اتفاقيات "سايكس بيكو" وشخصية لورنس العرب كشخصية عميلة ومخابراتية وليس كما تصوره النصوص الثقافية والتاريخية العربية.
لذا أستطيع القول إن جزءا من جهد الكاتب الروائي التاريخي يتلخص في البحث عن الرؤية المتمايزة التي ينشئ من خلالها نصه الأدبي حتى لا يكون مجرد شخص يكرر التاريخ كما روي أو كما قرأه.
* هناك خيط رفيع بين الروائي والمؤرخ، كيف مارست مهمتك الإبداعية دون الوقوع في فخ التأريخ؟
- أود القول إن المؤرخ والكاتب يشتغلان على نفس الحقل والدوائر في الظاهر، أي لا فرق في عملهما، لكنه لا أحد يستطيع أن يكون الآخر، فلا المؤرخ هو الكاتب ولا الكاتب هو المؤرخ، ولكل مساحته. فالأول يشتغل في حدود الإطلاقية واليقينية، بينما الكاتب يشتغل في حدود النسبية والتساؤل، أي أن الفرق بينهما هو عنصر الحرية عند المبدع المشروطة بالعالم الروائي والقصصي والحكائي الذي يكوّنه حول حقيقة قد تبدو تاريخية لكنها ليست كذلك بالمعنى المتعارف عليه لأنها خضعت للسؤال المتعلق بالرواية واندرجت في مسارات أدبية غيرت الكثير من هويتها التاريخية حتى ولو احتفظت بالعنصر الأساسي في الحقيقة التاريخية من حيث هي مادته، فهي تقبل الافتراضات والتأويلات والأسئلة الكثيرة، بينما الحرية عند المؤرخ مشروطة بما تلقاه من حقائق.
والخيط الرفيع الموجود بين الروائي والمؤرخ هو العقل الحر الذي يتضاءل كثيرا عند المؤرخ بينما يتضخم ويكبر عند الروائي.
* شهد العالم العربي ميلاد جيل جديد من الروائيين، فهل يمكن اعتبارهم امتدادا لروائيي الجيل السابق من حيث الاستلهام وطرائق السرد؟
- في الوطن العربي ميراث في غاية الأهمية، أنشأه الرعيل الأول وفرض به النوع الروائي وأعطاه كل مبررات الوجود، وعلى رأس هؤلاء نجيب محفوظ وحنا مينة وعبد الرحمن منيف وغيرهم.
أما الجيل الثاني، فقد أضاف الكثير لكي يرسخ هذا النوع ويصبح رديفا لما ينشأ عبر العالم ليس أقل وليس أكثر، ومنح الرواية فرصة لكي تخرج من يقينيات تاريخ التحرر العربي إلى الانغماس في دائرة الحاضر العربي من ناحية الحياة والإدراك الروائي، كنبيل سليمان وغالب هلسا والطاهر وطّار وغيرهم من الروائيين الكبار.
وتعاقبت الأجيال حتى وصلنا إلى سؤال الحاضر، وهو الذي يشغل الوطن العربي كحالة داخلية كالثورات أو ما سمي بالربيع العربي الذي أصبح جزءا من انشغالات النص الإبداعي، كشخصية الدكتاتور التي دمرت النسيج العربي وجعلت منه مجتمعات لها تقاطعات كثيرة، وحتى عندما يحضر الاختلاف فهو حالة تنوعية وليس تمزقية.
وهنا أود الإشارة إلى أن الرواية مست المعضلات التي تعيشها المجتمعات العربية كالصراعات الطائفية والعنصرية والتاريخية وحتى اللغوية في بعض النصوص، وتناولت قضية الأكراد والشيعة والسنة والدكتاتوريات التي ترسخت في نصف القرن الأخير، وشكلت مادة أدبية للجيل الجديد الذي انتقل من المستوى العربي إلى الإنساني لأن الرواية في نهاية المطاف بوصفها جنسا موسعا جعلت من القضية الإنسانية مدار منجزها الأدبي، كالحب والكراهية والضغينة والحروب والظلم، فخرجت بنصوصها من دائرة السياسي لدائرة الإنساني بحيث من يقرؤها في بعض نماذجها يشعر بأن ما يحدث عندنا لا يختلف عمّا يحدث في اليابان أو نيكاراغوا أو الصين أو أوروبا رغم الفوارق الحضارية.
لذا أنا متفائل بما تصنعه اليوم الرواية العربية التي خرجت من ضيق الرؤية إلى اتساعها، فهناك الكثير من النصوص التي بالإمكان وضعها أمام أي نص عالمي وفرض نفسها بسهولة لأن التقنيات المستعملة أو القضايا المندرجة روائيا لا تختلف كثيرا عما هو موجود عبر العالم.
* هل ترى أن الرواية حاليا تجيب عن الأسئلة المطروحة في الساحة العربية؟
- أرى أن من يجيب عن الأسئلة المعقدة وحتى تلك التي تعاني منها المجتمعات العربية هو المحلل والمفكر الذي يُخضع الظواهر لنصرة العمل العلمي بقواعده المختلفة. هذا من حيث المبدأ، لكن للفنون المختلفة إسهاماتها في فهم الظواهر التي نعيشها اليوم.
فإذا أخذنا قضية الربيع العربي ومنتجه الدراماتيكي والتراجيدي، فإن التحليل العلمي في الكثير من الأحيان يقف حائرا لأنه يفتقد الكثير من الحلقات التي يمكن أن يبني عليها تحليله، فكيف انحازت ثورات جاءت لتحرير الإنسان العربي من ضغط التخلف ومأساة الحاكم المطلق والمحرم أحيانا لنموذج "إسلاموي" يسهم في قتلها أكثر من كونه حاملا لمشروع، والأمر هنا لا يتعلق بالإسلام كدين يحمل القيم الإنسانية الكثيرة ولا يتعلق بالحركات الإسلامية التي اختارت ممارسة السياسة بعيدا عن اليقينيات والإطلاقات الدينية والأيديولوجية، لكن الأمر يتعلق بالنزعة الإقصائية لشيء اسمه الدولة ليحل محلها الخطاب الميت الذي لا يقدم أي حل للمأساة العربية.
هذه الحلقات قد لا يجدها المفكر لشرح التناقضات بينما تجد الرواية مساحة للكتابة الأدبية التي ترسم تحولات الأمكنة والتواريخ ونفوس الناس لتعطينا نصا نستطيع من خلاله إعادة ترتيب التاريخ والنظر في يقينياتنا.
الرواية ليست مضطرة لأن تعطينا دروسا في ظاهرة "داعش" التي تعمل على تدمير كل القيم الإنسانية ولكنها -أي الرواية- تستطيع إدخالنا بسهولة في حالة التفتت ونفسيات الناس الذين ساروا في هذا المسلك وتتحدث عن كيفية إفراغ الناس من إنسانيتهم.
وإذا كان الفكر في تحليلاته يتوجه نحو النخب العاقلة فالرواية تتوجه نحو أعماق الناس لكي تحركها وتدفع بها ليس للإجابة عن الأسئلة لكن على الأقل لإثارتها وتحريكها ومحاولة فهم ما يحيط بها.
* البعض يرى أننا نشهد فائضا في التأليف الروائي، فما رأيك؟
- يجب أن نقبل أن دائرة التعليم في الوطن العربي توسعت مهما كانت رؤيتنا حول هذا التكوين والتعليم، كما أن الترجمات زادت كثيرا وفتح التعليم آفاق الناس على نصوص عالمية أخرى، ويضاف إلى ذلك وسائل التواصل الاجتماعي التي دفعت الكتابة للمزيد من "الدمقرطة"، أي أصبح بإمكان أي شخص أن يكتب وينشر ويحكم عليه أصدقاؤه مما سهل الفعل الكتابي.
هذا الأمر نتج عنه إغراق السوق بالنصوص الشعرية والروائية وغيرهما. شخصيا لست منشغلا بهذا العدد الضخم لأنني أؤمن بأن النصوص العالية التي تندرج ضمن البعد الفني والإنساني تفرض نفسها بالضرورة على القراء والباقي يموت، لكن في ظل غياب المؤسسة النقدية يمكن لهذا التكدس الأدبي أن يحرم بعض النصوص المتميزة من الخروج والتفرد، ومع ذلك ما زلت مؤمنا بأن النص الكبير يظل كبيرا.
فالمؤسسة الأدبية الفرنسية تصدر سنويا حوالي سبعمائة رواية، لا يبقى منها سوى عشرين أو ثلاثين في أحسن الأحوال، ولهذا أقول إن البقاء للأصلح والنصوص الكبيرة ستجد طريقها. هذه الكثافة لم تمنع أسماء كالسوري خالد خليفة والكويتي سعود السنعوسي والجزائري سمير قاسمي وغيرهم من الكتاب الشباب من الظهور وفرض أنفسهم إبداعيا.
* أين موقع الرواية العربية في الأدب العالمي من وجهة نظرك، ولماذا لم ينل روائي عربي حظه من العالمية منذ جائزة نوبل التي فاز بها المصري نجيب محفوظ؟
- هناك جهود كبيرة تبذل في سياق الكتابة الأدبية والعديد من النصوص التي فرضت نفسها عالميا، منها الراحل نجيب محفوظ وكاتب ياسين وعلاء الأسواني وغيرهم، وهذا يدل على أن النص العربي ليس أقل النصوص العالمية، خصوصا في السنوات الأخيرة عندما تجرد من الثقل الأيديولوجي والتضخم اللغوي واتجه وجهة إنسانية وعالمية.
كما أن حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب ليس دليلا قاطعا على أن ما جاء بعده ليس صالحا لنيل الجائزة في نماذجه المتعالية الراقية، فقد رشح للجائزة كتاب عرب كالجزائرية آسيا جبّار عضو الأكاديمية الفرنسية ومحمود درويش وأدونيس ولم يحصل أحد على الجائزة لأسباب قد تكون سياسية أو لحسابات أخرى. لكن هذا لا يمنع من أن نصوصهم حققت إنسانيتها الواسعة من خلال الترجمة، وهو ما يضمن عالميتها أكثر من جائزة نوبل.
* كيف تنظر لدور مواقع التواصل الاجتماعي في دعم الإبداع والترويج له سلبا أم إيجابا؟
- واسيني أعد سيرته الذاتية وسماها "سيرة المنتهى.. عشتها كما اشتهتني" (الجزيرة) من وجهة نظري، تلعب مواقع التواصل دورين أساسيين: الأول هو التواصل بين الثقافات المختلفة وتسريع إيصال النصوص للآخر، وهو أمر مهم ويقدم خدمة كبيرة للأدب.
أما الدور الثاني فيلحق ضررا بالناس، حيث أصبحت تزرع أوهاما كثيرة في أنفسهم، إذ يكفي أحدهم الحصول على إعجاب مائة ليظن أنه أصبح أديبا يجب أن ينظر له باحترام وأهمية. هذا كله زائل ولن يبقى في مواقع التواصل إلا الأشياء ذات الأهمية القصوى لأنها تغطي النقص الموجود في دائرة التواصل وإيصال المعرفة بأسرع ما يمكن، وباتجاه الأشخاص الذين نريدهم.
* هناك مشروع أدبي يجمعك والناقدة الأردنية الدكتورة رزان إبراهيم، ما تفاصيله؟
- أعتقد أن الدكتورة رزان من جيل النقاد الجدد الذي يحمل خاصتين مهمتين هما: الثقافة الإنسانية الواسعة والإصرار على الابتعاد عن المقولات الجاهزة، وهو ما يوفر فرصة للمساجلة من بابي الائتلاف والاختلاف، وهذا مهم لأننا بحاجة لناقد يقرأ الأشياء بتبصر، وألا يكون تابعا بشكل أعمى للنظرية النقدية التي انتقدها بقوة الفرنسي تودوروف في كتابه "الأدب في خطر".
وقد كان اللقاء بيننا حول سيرتي الذاتية التي تحمل عنوان "سيرة المنتهى.. عشتها كما اشتهتني" أشكالها ونظامها ومؤدياتها القرائية.
أشير إلى أن الحقيقة صنعت تجربتي الخاصة الحياتية والأدبية والثقافية، عشت حياة اجتماعية قاسية تلخصت في استشهاد والدي عام 1959، ولكن بوجود أم مثالية راهنت على تعليمي انتقلت من قريتي المليئة بالأحلام والكوابيس إلى المدن الكبيرة كوهران والجزائر ودمشق وباريس، مما منحني الإحساس بأنني كائن ينتمي إلى اللامكان، لا تشدني الأيديولوجيا أو السياسة، ولكنني سيد أفكاري، وغلافي الأوحد وصديقتي هي الحرية دائما.
المصدر: الجزيرة
حاوره: توفيق عابد-عمان