الثقافي

الرواية تعالج جدلية الذاكرة والنسيان في حياة الناس

عمر عبد العزيز يختبر ثنائية الذاكرة والنسيان

 

يبحث اليمني عمر عبد العزيز في عمله "النسيان" عن ذاكرة انتقائية يكون فيها هامش للنسيان، ومتن للحفظ والأرشفة والتذكر، غائصا داخل الإنسان عبر النبش في ثنايا بطله الغريب الذي يضعه كمختبر لتجاربه في محاربة الذاكرة والنسيان، وكأن الإنسان يخوض حربه مع نفسه وداخله، يتحدى ركود الأحداث واستنقاعها، بحيث تتسبب له بالتوترات المتتالية والتراكمات المرهقة التي تقصيه عن يومه وغده.

يرمز عمر عبد العزيز إلى سعي الإنسان لتدوين الذاكرة، والاحتفاظ بكل التفاصيل في أرشيف التاريخ والحياة، وكيف يتحول كل امرئ إلى متحف يحتفظ بذاكرته بما يمر به من أحداث ووقائع ومفارقات، ويكون بطله نموذج الإنسان المنشود في بعض ممارساته، يجمع بين عدة نقائض، حيث يبدو معنيا بذاته وغيره، في حين أن ما يفترض أنها منحة وهبة تغدو محنة ونقمة.

 

فخ الذاكرة

عن أي ذاكرة يبحث الكاتب في عمله؟ أي نسيان هو المنشود؟ هل الذاكرة الانتقائية هي مرامه وموطن بحثه واشتغاله؟ هل يكون النسيان فخ الإنسان عبر تاريخه المديد؟ هل النسيان لعنة تستدرجه إلى دائرة من الخطايا المتتالية؟

ابتعد عمر عبد العزيز عن تجنيس عمله الذي يمكن توصيفه بأنه رواية قصيرة، أو قصة طويلة، إذ يبدأ بوصف شخصية بطله "فوفو" وحالته اللونية المتبدلة، البنفسجي، الياقوتي، تلك الحالة التي تعكس ألوانه الداخلية التي تشكل الحصيلة البنفسجية القلقة التي أدت إلى نعته بـ"المدهش"، وذلك بالموازاة مع انفتاحه على عينات بشرية من باب التماهي والتماثل، وكدلالة على ألوان متداخلة في إطار لوحة إنسانية واحدة.

"يضع بطل "النسيان" نفسه في تحد مع العلماء والفلاسفة، فتراه يتباهى بأن الفراهيدي عجز عن حل مشكلة النسيان، مستعيدا مدونة التاريخ"

يتميز بطله "فوفو" عن الجميع بأنه يتمتع بخاصية عدم النسيان، يباشر اختبارات متعددة ليتأكد من قدرته على تجاوز ما يعانيه الآخرون من نسيان دائم، تجعلهم يتقبلون الصفعات واللكمات والإهانات والتجاوزات والشتائم، لمجرد أنهم لا يعرفون ما حدث لهم من قبل.

أولئك المنسابون مع المستقبل انسيابا غرائزيا متحررا من ثقل الذاكرة وإكراهاتها القاسية، فالذاكرة تجعل العاشق سهرانا لا ينام، والمكلوم حزينا لا يقر له قرار، واللاهث وراء حطام الدنيا مهموما لا يفارق آلة الحساب ليل نهار، والبعيد عن مرابع عاداته متمرغا في أحضان الحنين الجارف.

ويضع "فوفو" نفسه في تحد مع العلماء والفلاسفة، فتراه يتباهى بأن الفراهيدي عجز عن حل مشكلة النسيان، بل اعتبر نفسه الوحيد المفارق لكل مَن ينسى في العالم، وهو يستعيد مدونة التاريخ التي قالت إن محنة الفراهيدي الأولى جاءت من محاولته اكتشاف طريقة فعالة لعدم النسيان، والقضاء على داء النسيان المنتشر بين الناس، وقضى بطريقة درامية جراء بحثه المضني عن حل للمعضلة الأزلية.

ويحاول البطل نقل خبراته إلى الآخرين ليشحذ ذاكرتهم، ويدفعهم إلى الاحتفاظ بالذكريات مستدلا بطريقة التصوير الفوتوغرافي، وينصح الجميع باقتناء كاميرات لتوثيق التفاصيل والأحداث، ولتتحول تلك المدونة البصرية الكبيرة إلى وسيلة لضبط إيقاع الحياة في مجتمع عانى ويعاني النسيان المزمن.

ويشتهر "فوفو" بين المعجبات بلقبه الجديد "كازانوفا". ينتقل من امرأة إلى أخرى بحثا عن الحب والحنان، وتصبح ميزته نقطة مؤلمة له، إذ يعاني من عدم النسيان، ويحتفظ بأدق التفاصيل. ترهقه الأحداث الكثيرة التي تفيض بها ذاكرته، فيدرك أن النسيان نعمة، لكن بعد كثير من التجارب المريرة ينتقل من الإيهام إلى التخيل، ويقع فريسة حالاته المتناقضة، وينقل وصاياه التي ستكون شهادته على عصر تحلى أبناؤه بالنسيان فظلوا دائرين في طاحونة مهترئة دون تجديد أو تغيير أو مواكبة.

 

نعمة ونقمة

بين مَن ينسى ومَن لا ينسى، يُبرز الكاتب أن النسيان يظل مراد الإنسان، وباعثا على الطمأنينة في كثير من الحالات، يتخفف عبره من مصائبه المتراكمة، ويجدد حياته بعيدا عن طبقات القهر والأسى.

"يختم عبد العزيز عمله بلغة شاعرية قريبة من طريقة جبران خليل جبران، مؤكدا أن فراشة النسيان تنساب الهُوينى محلقة في عوالم المعاني لتنذر المقيمين في محنة الذاكرة."

وحين يحاول رسم ذاكرة للمستقبل، يصطدم بتصوراته المريعة وتخيلاته الرهيبة عن العتمة القادمة، ويجد نفسه رهين وجومه، فيتمنى لو يتحلى ببعض التأسي كي يقوى على الاستمرار.

يُظهر صاحب "الحمودي" كيف أن محاولة الإنسان السفر عبر الزمان تورثه اختلاطا في الذاكرة، وهذيانا يستمر طوال الليل، وحالة من العجز المقرون بانفلات الزمان والمكان من قبضته، وفي حالة بطله يجد أن المسافة بين المستويين وذاكرته أصبحت كالمسافة بين النسيان والاستذكار، حتى إنه نسي الفرق بينهما.

ويعود الكاتب إلى التراث فيوظفه ليجري محاكاة واقعية، يستعين بمختارات شعرية يوردها في باب المساجلة الشعرية التي تنهض بأدوار معاصرة، ومن ذلك مثلا إيراده قصصا مسرودة على هامش أبيات شعرية في معرض القدح والذم، كما في حالة جرير والفرزدق وما دار بينهما من هجاء متبادل. ويكون في الاستعانة بالتراث ما يوجب البقاء على صلة به، وما ينطوي عليه من عِبَر وحِكم.

يختم عبد العزيز عمله بلغة شاعرية قريبة من طريقة جبران خليل جبران، مؤكدا أن فراشة النسيان تنساب الهُوينى محلقة في عوالم المعاني لتنذر المقيمين في محنة الذاكرة: بالتحذير من عدم النسيان.. وأن في الدهر صورا متناثرة، وأحوالا متغيرة.. وهذه الصور والأحوال لا يعول عليها إلا بوصفها طيورا مسافرة كالسحب العابرة. وأن هناك تبادلا دائما للأدوار بين النسيان والذاكرة، وكلاهما يشتمل على منازل للراحة ونوازل مقلقة، لكن لا مهرب منهما في لعبة الحياة المستمرة.

عن الجزيرة نت


 

هيثم حسين

من نفس القسم الثقافي