الثقافي

مع الفصول الأربعة

 

قصّة من نسج الخيال تدور بيني وبين الفصول الأربعةبعدما نصبتني حكما بينها، وقاضيا بغية المفاضلة والموازنة،والهدف منها إبراز ميزة كل فصل على حدى مع إجلاءتركيبة الجمال الفسيفسائي، الذي يتميّز به كل فصل عن الآخر.

تحت شجرة الصفصاف السامقة في علياء السماء،أجلس ؛غارقا في وحدتي؛مفكرا في كتاب الوجود الذي اعتبر نقطة فوق حروف نصوصه التي أبدعها خالقي. بين الفينة والفينة أحاور ذاتي،التي تقبع بداخلي،فأحيانا تجادلني حتىّ أتمنىّ رحيلها لتسلمني لوحدتي، وأحيانا أخرى أطارحا همومي وأحزاني، وأبثّ لها شكواي،فتربت بيديها على كتفي وتُديرني لتضُمّني على صدرها كما تضمّ الأمّ الرؤوم وليدها الصغير.

في يوم من الأيام-كعادتي- وأنا غاطس مع ذاتي الجامحة في بحر التفكير. إذ هبّت عاصفة شوشت أفكاري، وأقلقت استقراري، ودارت حولي زوبعة-من بنات عمِّها- أدخلت الفزع في قلبي، فارتعدت فرائصى، فلُذت بجذع الصفصافة ،لأخفِّف عن نفسي هلعها.تلاشت هذه الزوبعة عن أربعة رجال جاؤوا معها، فهالني الأمر فصرخت صرخة طيَّرت أوراق شجرة الصفصاف من غصونها لتتساقط على رأسي.

تقدّم الأربعة نحوي وقالو بصوت واحد:

- هدئ من روعك...لا تخف لم نأت لنؤذك بل جئنا لنحتكم عندك.

- من أنتم ؟ومن أنا حتىّ أكون حكما بينكم !؟

- نحن الفصول الأربعة،نحن دورة الفلك، وأزمان تتعاقب على الأرض، التي تحتضنك أنت وصفصافتك ،وتحتضن بني جنسك وغيرهم من الكائنات لتأثِّر فيهم،وتتأثَّر بأحكامهم على مدار السنين، التي نتعاقب فيها على هذا الكون.

اشتدّ بيننا الخصام ،وكلّ واحد منّا تعالى على الآخر، وأشاد بفضله وتغنّى بأناه، فعزمنا أن نتنصّل من زمنيتنا، ونهبط إلى الأرض في صورة بشر، حتّى نحتكم إليهم لأنّهم ابتلوا بنا ،وهم أدرى الكائنات العاقلة لحقيقة كل واحد منَّا،فكنت أوّل من التقينا به فعزمنا- بعدما أجمعنا على كلمة واحدة - أن تكون الحكم بيننا.

بعدما سمعت قصّتهم استرخى جسدي المتشنِّج،وغمرتني السكينة، وزال عنِّي الخوف وتلاشت وحشتي،وانجذبت بعاطفتي نحوهم، وقلت لهم: القضاء بين المخلوقات صعب والبتُّ في هذه القضايا ليس من اختصاصي ،وإن كان ولابد،فليخبرني كل واحد منكم عن نفسه، وليحدّثني عن حاله بلسان مقاله،وليختصر لأنّني لا أحبُّ الثرثرة،ومن فرط بغضي لها هجرت بني جنسي،ولذت بفيء هذه الصفصافة مرتميا في أحضان وحدتي.

تقدّم أولهم يتكسّر في مشيته وعلامات الاصفرار بادية على صفحة و جههه.تكلّم فقال :أنا الخريف، أنا فصل الأمطار والرياح المتناوحة على مصير البشرية.آتي بعد الصيف فيهولني منظر الأرض ،التي جلد ظهرها بسياط أشعة شمسه اللافحة دونما أن تجترح جرما يوجب عليها الحد.

أفزع لآثار هذا الجلد، فأبكي لعلّ جراحها الغائرة تندمل. تتوسّلني وتقول :ابكي وابكي و ابكي...فبكاؤك رحمة لي،كما يتوسّلني أرباب الأراضي من الفلاحين قائلين:انثر عبراتك ،ودعها تنهمر، فإذا دموعك صامت عن البكاء ،استعبرها حتى ترتوي أراضينا ليكتب كل واحد منَّا على صفحاتها بمحراثه خطوط الحياة.

آتي فتشمئز نفسي من مناظر الأشجار، ومن ملابسها الصفراء البالية، فأنفخ فيها من ريحي لأجرِّدها من أثوابها، فتتناثر الأوراق، التي نُسجت منها هذه الأثواب .تتهلّل وجوه الأطفال لقدومي، فيرقصوا تحت أشعة شمسي الخافتة، ويغنّوا أغنية الطفولة البريئة.أهتزُّ لأهازيجهم، وأتمنّى أن لا تتوقّف إشباعا لمجاعتي.

يرحّب بي الشباب لأنّي أبعث فيهم روح الحياة،التي حبستها فيهم لفحات الصيف فينشطوا من عقالهم،وتستقبلني النساء بأوجه منبسطة،وابتسامات مفتوحة استقبالهم للضيف الكريم، الذي طالت عودته...وقبل أن يستمرّ في كلامه نهره صديقه الثاني قائلا له: صه ! كم أكره ثرثرتك المملّة،لذالك عزمت على تجميدها في فيك.

تقدّم الثاني يجرّ عباءته، فهالني شعره الذي طار غرابه، ووجهه المنقبض الموشح بلحية بيضاء،وقال:أنا الشتاء، آتي بعد الخريف ،الذي اِخترف أوراق الأشجار ،وأضفى على الأرض مسحة من الحزن العميق.يرقّ حالي لها، فأنسج لها من ثلوجي ثوبا أبيضا ناصعا وأكسوها به، لتغدو مثل الحورية .

يحبّ الناس ثلوجي، ويبتهجون لرؤيتها، وهي تتساقط عليهم كالقطن المنفوش ،أفرح بهم عندما أراهم يتراشقون بكريات الثلج، التي يصنعونها،وأتعجب لإنسانهم ،الذي ينحتون ملامحه الكاريكاتورية، ويدورون حوله ليلتقطوا معه أجمل الصوّر، التي تبقى كشاهد على أجمل اللحظات التي قضوها .

أحكم على بعض الحيوانات بالسُّبات،حتىّ أستريح مع البشر من لجبها ولغطها،وأعطي لبعضها العنان لتلهوا، وتلعب، وتلتقط رزقها مثل :العصفور الدوري وبعض الأرانب، التي تفتح شهية الإنسان لصيدها.

أُلهم الشعراء، فينظمون قصائدهم المفعمة بالعواطف الحارة في زمن الصقيع والبرودة، وأفتح شهية الإبداع عند الرسامين فيرسمون ألواحهم ليوحِّدوا فيها بين بياضي وسمرة الأرض، وأدفع الكتّاب، ليكتبوا عنِّي نصوصهم،وهم يصطلون بنار هي أجمل نار ضُرب بها المثل في التلذذ فقالوا:"ألذ من نار الشتاء".

الكلّ يفرح بي رغم قسوتي عليهم ،التي تجعلهم- في بعض الأحيان-أحلاس بيوتهم.ولكن هذا لا يمنعهم من التمرّد على هذه القسوة، ومجابهتها بالصبر والعزيمة والانتصار عليها بقوة العقل، التي حباها الله للبشر.لا أريد أن ألوك الكلام حتّى لا تمجَّه الأسماع ...أنا الشتاء !

 

عاد القهقرى ،ليتقدّم ثالثهم، وقد بدت عليه مخايل الأبّهة،وعنفوان الشباب،يرفل في ثياب سندسية ، مكحول العينين ،له وجه أجرد ، ؛تنبعث منه سبحات من النور، ارتسمت على شفتيه حزمة من الابتسامات الساحرة، التي تبعث التفاؤل؛يوزعها –مجانا- على من يلتقي به.

عندما اِقترب مني انتصب قائما، وقال مسترسلا في الكلام:أنا الفَتِيُّ في الفصول والشاب ذو الفضول.أنا الربيع، آتي لأُلقي برنس الجمال الفيروزي على الأرض،وأبعث فيها الحياة من جديد،تبتهج وتُخرج زينتها من رحم جمالها الباطني ،فتمتزج ألوان الأزهار مع خضرة الحشائش والأعشاب.تفيق السواقي من نومها الشتوي،وتعطي العنان لمياهها لتنساب بين الصخور،لترسل ثرثرتها المتقطِّعة هنا وهناك.تخرج الحيوانات من جحورها تَنشد حريتها، التي قيّدها الشتاء ؛جذلة فرحانة بعدما غمرتها السعادة.

أنا الذي أُعلن عودة الطيور، التي هجّرها الشتاء أسرابا أسرابا، لتعزف سنفونية الربيع الخالدة في أديم السماء، وهي تزفّ بشرى عودتها مع عودته قائلة :يا بشرانا الربيع قد أتانا !والأجمل في هذه العودة الميمونة؛ عودة طائر السنونو،هذا الطائر الأبلق، الذي يعشق صفحات الماء، ويدمن تقبيلها بجؤجئه. يعود ليصنعني،وسنونوة واحدة -كما تقولون- لا تصنع الربيع.

تتهلّل وجوه الناس لعودتي،ويستبشرون بقدومي لأنّني أُذيب في وجوههم جليد الكآبة والضجر، وأزرع فيها بذور الفرحة والتفاؤل،وأسقيها بماء المحبة، ليثمر فيها الأمل.أزيح طبقات الغيوم المكفهرة عن السماء لأُزيل تجهّمها حتىّ يتمتّع الناس بلونها السمنجوني الدافئ...ويتمتّعون بقرص الشمس السابح في قٌبتها.أنا الربيع، فضائلي لا يحصيها العد… ويكرّر الصدى كلامه:فضائلي لا يحصيها العد. 

تقّدم رابعهم؛ يجرّ خطاه المتثاقلة،والعرق يتصّبب على جبينه الصلت، فبادرته بالقول قبل أن يفتح فاهه بالكلام:-أنت الصيف؟

- نعم أنا هو.

- حدثني عن نفسك بنفسك.

أرسل من جوفه تنهيدة حارة؛ لفحت وجهي، وهجم عليّ قائلا:أنا فصل المرح والفرح ،أنا موزِّع السرور والحبور على الكائنات.آتي لأحتضن الأرض بحضني الدافئ وأرسل أشعة شمسي في النهار، لتزور الحقول والبساتين، وتحلُّ في الخضر والفواكه فتولِّد فيها لذة الطعم، وجمال الألوان إكراما لمن بذروها في الخريف، ورعوها في الشتاء ،وسهروا عليها في الربيع.

أهب السنابل الخضراء -التي تترنح برؤوسها وهي تراقص هبات النسيم- لونا ذهبيا مشعا؛ يغازل عيون الناظرين؛ ويسرق ألباب العاشقين.تغار منه مناجل الحاصدين فتُسارع لقطع رقابها إحياءً، لأصحابها وسدا لجوعتهم، وجوعة حيواناتهم البهيمة،لا ظلما وعدوانا.

وأعطي الأمر لقَمرِي في سواد الليل، ليضيء قنديله الوهاج، فتتبدّد الظلمة، وتختفي العتمة، ليستبشر عُشاق السمر، وعُبّاد السهر ،فيبادلونه نظرات الرضى شكرا لصنيعه. تهدأ بحاري،وتنادي سكان الأرض، ليهرعوا صوبها من كلّ مكان، حتىّ يداعبوا مياهها ويعانقوا أمواجها، ويناموا على رمالها الذهبية الدافئة،فتتساقط همومهم وأحزانهم؛صرعى على شواطئها. 

أنا محبوب البشر،بل ولي حظوة عند كلّ الكائنات،لا يجهلها إلاّ من يجهل فضائلي،وأنت تدركها أيّها البشري الفاني.حدّقت فيه مليا بعدما أحجم عن الكلام، واستدعيت رفاقه الثلاثة وقلت: اسمعيني أيتها الفصول الأربعة بعدما استعرتم صورة أبناء جنسي, وجئتموني طلبا لقضائي، والموازنة بينكم بالعدل؛ ولا أتفوه إلا بما يمليه العدل.

لكلّ واحد منكم مزايا تختلف عن سابقه وتاليه،وكلّ واحد منكم له الفضل؛وهذا الفضل نحن نقرّ به،لأنّنا خبرناكم وجربناكم عن كثب،وصار فينا شبه من طباعكم ،ففينا من بُشبه الخريف في خفة روحه، وبرودة مشاعره،وفينا من يحاكي الشتاء في انقباضه وقسوته ،بل ومنا من يضارع الربيع في رقته وسنائه وبهائه، ويوجد بيننا من هو أخ للصيف في دفئه وحنوه وعطفه .

المساواة بينكم ضرب من المستحيل،والاختلاف رحمة يحسّ بها البشر في طباعكم.بها كسبتم القلوب وفُزتم بحبها ،وأسرتم أصحابها، فأصبحوا يلهجون بأسمائكم في كلّ الأزمان بل أصبحتم جزءاً من عمر كلّ إنسان،وتاريخا من تواريخه .

وفي ختام قضائي أقول :الفصول إخوة جادت بها رحم الزمن، وأهدتها للأرض ومن يقبع عليها.فكان لكلّ فصل منكم طقوسه، التي يمارسها عل كوكبنا الغندورّ حتىّ يظفر بقلوبنا، فأنتم الشركاء في حبنا ،ونحن الحلفاء في تقديركم واحترامكم،فلا فضل لأحدكم عن الآخر ؛بل لكم كلّ الفضل في تكملة بعضكم البعض، فأنتم سواء وأنتم الطلقاء ورفعت الجلسة. 

ما إن رُفعت الجلسة، حتىّ عادت الزوبعة من جديد، ليختفي معها الأربعة بشخوصهم ولم يبقى أحد إلاّ شخصي.شعرت بالتّعب، فأسندت ظهري إلى جذع شجرة الصفصاف،حدثت ذاتي بعدما أثنيت عل حنكتي في القضاء قائلا لها :حمدا لله ،لأنّني قضيت بالعدل بين خصومي، ولم أشطط في حكمي أتعلمين لماذا ؟ لأنّنا فصول لها شخوص تُبنى أجسادنا بتتابعها،وتنهدم بانهدامها. ضحكت ذاتي متعجِّبة من قضائي فضحكت لضحكها متعجبا من ضحكها.


السيد : لخذاري أمحمد

من نفس القسم الثقافي