الثقافي
قراءة في رواية ليمبو بيروت
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 01 سبتمبر 2014
يبدو هلال شومان في روايته الثالثة "ليمبو بيروت" مولعاً بالتجريب، وبإنتاج شكل جديد لروايته، فهو يبنيها على شكل خمس قصص تبدو منفصلة، لكن إشارة واحدة في نهاية كل فصل تكون مفتاح القارئ ليربط بين هذا الفصل وما سبقه. حين يصل إلى النهاية، تكون جميع قطع "البازل" قد أخذت أماكنها، وتبدو الصورة واضحة، كاملة: بيروت عام 2008، وحربٌ صغيرة تدور على خلفية اللوحة التي تجمع شخصياتٍ كثيرة، يتمم كل واحد منها المشهد الذي وجد نفسه فيه مصادفة.
لا يكتفي شومان بإنتاج هذا الشكل، بل ينوّع أيضاً داخل الرواية مستخدماً أكثر من طريقة للسرد، ففصلٌ يسرده على لسان راوٍ خارجي يعلم كل شيء عن شخصياته، وفصلٌ آخر ترويه الشخصية نفسها، وفصلُ يجمع بين الحالتين السابقتين، وفصلٌ مكتوبٌ من قبل بطله على شكل رسالة طويلة لحبيبته التي انفصل عنها.
خمسة محاور، خمس قصص، وخمسة عناوين، تتباعد، تتقارب، تتقاطع، لترسم صورة بانورامية عن المجتمع اللبناني والحياة فيه، بكل الاختلافات والتشابهات، بكل التناقضات والتحولات التي يراها الفرد الذي يعيش تحت وطأتها دون أن يفهم كيف تحدث. "أحياناً لا أفهم هذا البلد. كيف ينتقل من النقيض للنقيض. كيف يخلقون تلك الأشياء المنظمة داخل الأشياء غير المنظمة داخل الأشياء المنظمة... متاهة. كيف أن كل شيء يمشي، ويتأقلم، ويتطور، ويعيش. فعلاً متاهة".
تغدو الأحلام والكوابيس طريقةً أخرى يوظفها الروائي في السرد ليعبّر عن المخاوف التي تعتري أبطاله والهواجس التي تؤرقها، ويصبح التقديم والتأخير في الزمن متعة ولعبة أخرى يتقنها، مؤرجحاً نصّه بين الماضي والحاضر ليقصّ حكاياتٍ مكثفة تضجّ بحيوات أصحابها، فنقرأ عن شاب مثليّ "وليد"، يخرج صبيحة اليوم الذي تجري أحداث الرواية فيه من شقة عشيقه "ألفرد" إلى شارع الحمراء ليلصق على جدرانه أنصاف الوجوه التي رسمها هناك سيقترب منه رجل فيساعده في ذلك، قبل أن يفرّ هارباً بعد ظهور مسلّح يصوب سلاحه نحو "وليد" ويسأله عما يفعل هنا.
في الفصل الثاني ثمة روائي يبحث عن حكاية ليكتبها، يبقى وحيداً بعد رحيل زوجته اليابانية إثر الحرب التي نشبت، وفجأة تظهر القصة أمامه، تلك التي بحث عنها طويلاً، بعد أن يصدم بسيارته مسلحاً يشهر سلاحه تجاه شاب يلصق رسومه في الشارع.
هناك أيضاً "سلوى"، امرأة تهوى جمع أعداد مجلات التسالي، لتحلّ الكلمات المتقاطعة، تتزوج من رجل بعد ضغوط مارستها أمها عليها، وتبقى حائرة في علاقتهما الرقيقة، دون أن تستطيع حل لغز هذا الرجل المختلف عما تعرفه من رجال. "كانت تشعر معه أنها أمام شبكة من الكلمات المتقاطعة من المستوى الصعب!"، لكن هذا اللغز سينكشف للقارئ حين تصرخ في نهاية الفصل وهي تلد في المستشفى "وينك يا ألفرد؟".
يرصد الكاتب في الرواية زمن ما بعد الحرب الأهلية، محاولاً تبيان الآثار النفسية والاجتماعية الهائلة التي تركتها الحرب، وكيف أنها ما زالت حاضرة في أذهان البعض، يتجلى حضورها في الكوابيس المؤرقة لرامي، الذي عايش الأحداث وهو طفل صغير، فأصبح غير قادر على نسيانها. أما أخوه حسن فقد حمل السلاح واشترك في الحرب ليحمي عائلته، ثم عاد وحمله في الحرب الجديدة (2008)، قبل أن يموت بعد أن صدمته سيارة. حسن يميّز بين الحربين، ولا يقتنع تماماً بأسباب الحرب الجديدة، "ما لي أنا تغيّرت؟ لا. لا. الحرب كانت غير. الحرب كانت أطول، أزخم، أعنف، الحرب كنت داخلها. لا. كانت داخلي. هنا، ما الذي أفعله؟ ما هذا؟ أنا معهم ولست معهم؟".
فصل الرواية الأخير، يجمع كل الشخصيات السابقة، بطله طبيب فارق حبيبته، يكتب لها، ويحكي عن علاقتهما، عن بيروت، عن غروب الشمس، وعن الحرب والموت والحب، ثم ينتقل ليحكي كيف وجد نفسه شاهداً خفياً على قصة: فهو من ساعد وليد حين كان يلصق رسومه، وشاهد كيف مات حسن، ثم التقى جثته في المستشفى الذي يعمل فيه، والتقى "سلوى" التي كانت على وشك الولادة. ليصبح بعد هذه الحادثة جزءاً من القصة دون إرادته، "لكأن الغرباء كانوا يستهدفونني في تلك الليلة يا سناء؟ من الشاب الرسام إلى المسلح إلى المرأة الحامل؟ كيف أصبحت فجأة شاهداً على حياة كل هؤلاء؟ كيف اقتحمت حياتهم، وكيف اقتحموا هم حياتي؟ كيف دخلت هكذا، وصرت جزءاً من قصص لا أفهمها؟".
ولع شومان بالتجديد لا يقف عند حدود النص المكتوب، بل يتعداه إلى إضافة رسوم تتخلل فصول الرواية، رسمها: "فادي عادلة، براق ريما، جنى طرابلسي، محمد جابر". هذه الرسوم تضفي دلالات أخرى على الأحداث، لتشكّل نصاً موازياً ومتمماً لها.
هلال شومان، روائي لبناني من مواليد بيروت 1982، حائز بكالوريوس في هندسة الاتصالات والإلكترونيك من جامعة بيروت العربية في بيروت، وشهادة في الدراسات العليا في اتصالات الأقمار الصناعية من جامعة تيليكوم باريس تك Télécom ParisTech. أصدر ثلاث روايات، هي "ما رواه النوم"، "نابوليتانا" التي أنجزها في إطار محترف "كيف تكتب رواية"، و"ليمبو بيروت" التي أنجزها بمنحة من الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق).