الثقافي

"منتصب القامة" أمشي

الشاعر الفلسطيني سميح القاسم في ذمة الله

ليلى عمران

 

غيب الموت عنا، امس الاول، ابا الشعر الفلسطيني والعربي، صاحب كلمات "منتصب القامة امشي.. مرفوع الهامة امشي... في كفي قصفة زيتون... وعلى كتفي نعشي، وانا امشي وانا امشي"، الشاعر الفلسطيني منتصب القامة سميح القاسم، لتجد القضية الفلسطينية نفسها يتيمة من شعرائها اثر فقدانها لتوأمها الثاني بعد الاول الشاعر الراحل محمود درويش.

يبكي العالم العربي اليوم رحيل الشاعر الفلسطيني الكبير وأحد أهم وأشهر الشعراء العرب المعاصرين الذين ارتبط اسمهم بشعر الثورة والمقاومة سميح القاسم بعد صراع طويل مع مرض السرطان أصيب به قبل ثلاث سنوات، ليخسر معركته الأخيرة بعدما بقي لغاية أيامه الأخيرة واقفا، مقاوما رافع الرأس...كما كان عليه طوال حياته، وكان صاحب "لا أستأذن أحداً"، الذي يشيع جثمانه اليوم، قد قضى أيامه الأخيرة في مستشفى صفد، نتيجة تدهور حالته الصحية، وبحسب ابنه فإن القاسم كان يدخن حتى أثناء العلاج، وحتى حين كان في المستشفى، بل كان يخرج من غرفة العلاج أحيانا ليرافق أحد الأطباء ويدخن معه في الخارج"، على حد تعبيره عن أبيه المقيم في بلدة "الرامة" القريبة في الجليل الأعلى 25 كيلومترا من عكا.

منتصب القامة "مشى".. ورحل، شاعر العربية الكبير صوت المقاومة الناصع وصاحب "غزة تبكينا لأنها فينا" ورفيق درب محمود درويش والقابض على جمرة الشعر حتى النفس الأخير، وبرحيل سميح القاسم عن عمر 75 عاما، تكون القضية الفلسطينية قد فقدت لحد اشهر اعلامها الذي طالما وهب شعره وأدبه من أجلها كما فعله رفيقه محمود درويش، حيث كانت كلمات أشعاره كطلقات الرصاص في وجه الاحتلال الإسرائيلي، ظلت طيلة عقود ترددها الأجيال من بينها "تقدموا ..تقدموا براجمات حقدكم وناقلات جندكم فكل سماء فوقكم جهنم... وكل أرض تحتكم جهنم".

 

مسار حافل بالنجاحات

ولد سميح القاسم في 11 من ماي من سنة 1939 في مدينة الزرقاء الأردنية، ونشا وعاش في بلدة الرامة شمال فلسطين، ودرس في الرامة والناصرة، بعد النكبة، و"ولادة" الكيان الإسرائيلي، الذي يصفه بأنه دخيل على حياته. عمل القاسم معلماً، لينتقل بعد ذلك إلى النشاط السياسي في "الحزب الشيوعي الإسرائيلي"، قبل أن ينتقل إلى العمل الصحافي ومن ثم يتفرغ للكتابة الأدبية وهو مؤسس صحيفة "كل العرب" ورئيس تحريرها الفخري، وإلى جانب مسيرته الشعرية، التي بدأها عام 1958 بمجموعة "أغاني الدروب"، قدم القاسم إسهامات في مجال الكتابة الروائية والمسرحية والسيرة الذاتية. ومن رواياته القصيرة، "إلى الجحيم أيها الليلك"، و"الصورة الأخيرة في الألبوم". كما كتب المقالة الصحافية السيارة التي تدور حول الحدث، ومقالات النقد والدراسة الأدبية. اعتقل عدة مرات وفرضت عليه الإقامة الجبرية من القوات الإسرائيلية لمواقفه الوطنية والقومية وقد قاوم التجنيد الذي فرضته إسرائيل على الطائفة الدرزية التي ينتمي اليها، كان متزوج وأب لأربعة أولاد هم وطن ووضاح وعمر وياسر، ويحفظ السجل الأدبي لسميح القاسم الكثير من الإبداعات التي أثرت الساحة العربية بصفة عامة، تغنى بها الكثير في كامل العالم العربي منها قصيدته التي غناها مرسيل خليفة ويغنيها كل أطفال فلسطين وتغنى في كل مناسبة قومية "منتصب القامة أمشي .. مرفوع الهامة أمشي ... في كفي قصفة زيتون... وعلى كتفي نعشي، وأنا أمشي وأنا أمشي"، وتنوعت أعمال القاسم بين الشعر والنثر والمسرحيات ووصلت لأكثر من سبعين عملا، اشتهر بكتابته هو والشاعر محمود درويش الذي ترك البلاد في السبعينات "كتابات شطري البرتقالة"، كما تنشر قصائده بصوته على القنوات العربية والفلسطينية خصوصا الايام التي تشهد فيها الأراضي الفلسطينية هجوما إسرائيليا.

75 عاما، قضاها شاعرنا الكبير ما بين سجن أو اعتقال أو نضال أو مرض أو سفر، لم يعرف قلبه الراحة حتى حينما عاد إلى فلسطين، فقد أرهقه الانقسام الداخلى والشتات الخارجى وموت الأصدقاء ومؤخرا ألم المرض، لكنه لم تفتر عزيمته ولم يصدأ قلمه وظل مخلصا للشعر والمقاومة والأدب والقضية، صدرت أعماله فى سبعة مجلّدات عن دور نشر عدّة فى القدس وبيروت والقاهرة كما تُرجِمَ عددٌ كبير من قصائده إلى الإنجليزية والفرنسية والتركية والروسية والألمانية واليابانية والإسبانية واليونانية والإيطالية والتشيكية والفيتنامية والفارسية والعبرية واللغات الأخرى، وحصل سميح القاسم على العديد من الجوائز والدروع وشهادات التقدير وعضوية الشرف فى عدّة مؤسسات، فنالَ جائزة "غار الشعر" من إسبانيا كما حاز على جائزتين من فرنسا عن مختاراته كما حصلَ على جائزة البابطين للشعر العربى وحصل مرّتين على "وسام القدس للثقافة" من الرئيس ياسر عرفات، وحصلَ على جائزة نجيب محفوظ من مصر وجائزة "السلام" من واحة السلام، وجائزة "الشعر" الفلسطينية، وصدَرتْ فى العربى وفى العالم عدّة كُتب ودراسات نقدية، تناولَت أعماله وسيرته الأدبية وإنجازاته وإضافاته الخاصة والمتميّزة ليحتار النقاد فى إطلاق لقب مناسب على هذا الصوت العربى الشامخ، فبعضهم قال إنه "هوميروس الصحراء" وقال البعض الآخر إنه "قيثارة فلسطين" وبينما لقبه آخرون بـ"متنبى فلسطين بينما وصفه البعض الآخر بـ"الشاعر القديس" "سيّد الأبجدية"، وشاعر الشمس.

 

 

 

 

وفى ظل هذا الموت القاسى، وفى ظل هذا العدوان الممنهج على غزة، لا يسعنا إلا أن نسترجع كلمات الشاعر الكبير التى أنشدها لأنصار القضية الفلسطينية، محفزا ومدعما قائلا: 

تقدموا تقدموا

كل سماء فوقكم جهنم 

وكل أرض تحتكم جهنم 

تقدموا 

يموت منا الطفل والشيخ 

ولا يستسلم 

وتسقط الأم على أبنائها القتلى 

ولا تستسلم 

تقدموا 

تقدموا 

بناقلات جندكم 

وراجمات حقدكم 

وهددوا 

وشردوا 

ويتموا 

وهدموا 

لن تكسروا اعماقنا 

لن تهزموا اشواقنا 

نحن القضاء المبرم 

تقدموا 

تقدموا 

 

سميح القاسم.. قيثارة فلسطين تتوقف عن العزف

في قصيدة القاسم نعثر على نبرة حماسية صاخبة، حتى غدا نتاجه الشعري موسوعة تضم طيفا واسعا من مفردات المقاومة والكفاح في سبيل انتزاع الحقوق، والإيمان بالنصر.

نال الكثير من الجوائز واستحق ما أُطلِقَ عليه مِن نعوت وألقاب، فهو "شاعر المقاومة الفلسطينية" وهو "شاعر القومية العربية" وهو "الشاعر العملاق" كما يراهُ الناقد اللبناني محمد دكروب، والشاعر النبوئي، وهو "شاعر الغضب الثوري" على حد تعبير الناقد المصري رجاء النقاش، وهو "شاعر الملاحم"، و"شاعر المواقف الدرامية" و"شاعر الصراع" كما يقول الدكتور عبد الرحمن ياغي، ولقب كذلك بـ "قيثارة فلسطين".

لم يشأ القاسم أن ينأى بقصيدته عن مظاهر الهزيمة والضعف في الواقع العربي، بل استطاع أن يشخص هذا الواقع المرير متخذا من القضية الفلسطينية مدخلا للحديث عن حالات الهزيمة والانكسار، بيد ان هذه المكاشفة كانت مقرونة بروح متوثبة تستنهض الهمم، وتعبر عن التفاؤل بان ساعة النصر ستأتي في ظل هذه الآلام، إذ أثبتت تجارب التاريخ أن تضحيات الشعوب لا بد وان تفضي إلى الانتصار، اشتهر القاسم بكتابته هو ومحمود درويش الذي ترك البلاد في السبعينات "كتابات شطري البرتقالة"، ووصف الكاتب عصام خوري هذه المراسلات بانها "كانت حالة ادبية نادرة وخاصة بين شاعرين كبيرين قلما نجدها في التاريخ"، وتنشر قصائده بصوته على القنوات العربية والفلسطينية خصوصا هذه الايام على اثر العدوان الإسرائيلي على غزة.

 

"إنها مجرد منفضة" سيرة ذاتية للراحل

في كتاب "إنها مجرد منفضة" يروي سميح القاسم سيرته بروح دعابة وتهكّم حكّاء يودّ جعل حكايته ممتعة. "ليست سيرة ذاتية، هي محاولة لترميم صور من الذاكرة، صور قديمة، بالأبيض والأسود". يقول الشاعر الفلسطيني في مطلع كتابه ويمضي في عرض صور ينتقيها من ألبوم السيرة. في سيرته كما حياته، تعدّى موقع الشاعر ليكون الشخصية العامة ورجل المجتمع، حياة عاشها بالطول والعرض والنكتة أيضاً: قصص مع مشاهير الأدب والفن والشعر في العالم ورجالات السياسة... وجنرالات العدو أيضاً: من دعوة غداء في بيت القائد الجزائري أحمد بن بلة في باريس مروراً بإسحق رابين الذي جمعته به المصادفة في إحدى السفرات إلى تفكير القاسم بقتل ديفيد بن غوريون في أحد الوديان، سيرة يسردها بضمير المخاطب مطعّمة بالطرف وبسلاسة الصحافي المتمرس واللاذع. مساحة يفردها لإقامته في موسكو وغرائب الزمن السوفياتي: "كنت في موسكو. ويزورك في فندقك عدد من أهل الأدب والسياسة والفن العرب المصريين. وكانت بينهم الفنانة سعاد حسني. حين شاهدت حقائبها الكثيرة المملوءة بالهدايا، علّقتَ مداعباً: يا لك من فنانة بورجوازية! ولم يتأخر ردّ سعاد حسني التي كالت لك الصاع صاعين: أنا بورجوازية؟ طب بص شوف أنا جايبتلك إيه هدية. أهو لينين شخصياً!". يكتب القاسم سيرته فتى وشاعراً يعارك الواقع في فلسطين المحتلة، ويمتطي شهرته الأدبية إلى عواصم العالم. يروي دخوله إلى "الحزب الشيوعي الإسرائيلي" وملابسات خروجه منه بعد اتهامه بـ"الشوفينية القومية"، ينهي القاسم سيرته بما يشبه الاعتراف والمرافعة: "ولأنّك لا تدّعي العصمة ولا تزعم الكمال، فإنّك تترك الجزء الأخير من هذا البوح العفوي وغير المقولب واللامحسوب، مجالاً لكلمة أخيرة. وها أنت منهمك بضرورة الاستعداد للحياة وضرورة الاستعداد للموت، لكنّك مؤمن بأنّه لا بُدّ من فرج قريب بقدر إيمانك بأنّك من حياة إلى موت ومن موت إلى حياة، ومن رمل إلى رمل، ومن تراب إلى تراب، ومن ماء إلى ماء، ومن رماد إلى رماد، ومن قمح إلى ورد. ومن كلّ شيء وأيّ شيء إليها، إلى المنفضة، فما هي إلّا منفضة. إنّها منفضة. إنّها مجرّد منفضة!".

 

محمود عباس والشعراء يرثون سميح القاسم 

نعى الرئيس الفلسطيني محمود عباس الشاعر الراحل. ونقلت عنه الوكالة الفلسطينية: "الشاعر القاسم، صاحب الصوت الوطني الشامخ، رحل بعد مسيرة حافلة بالعطاء والذي كرس جل حياته مدافعاً عن الحق والعدل والأرض"، كما وصف الكاتب عصام خوري مراسلات الراحل مع محمود درويش بأنها "كانت حالة أدبية نادرة وخاصة بين شاعريين كبيرين قلما نجدها في التاريخ"، اما الصحفي وائل السمري فقال عنه: "لم يجد فى المكان مكانًا فمضى، وهو الذى تغنى دائما بالصمود، صعدت روحه إلى الكبير المتكبر بعد أن قبعت أرواحنا فى مرارة الخذلان، نادى فلم نسمع النداء، صرخ فصمتت آذاننا، طرق الأبواب فأوصدناها، فلم يعبأ بشىء ومشى، صاحب أنشودة الفخر الفلسطينية "منتصب القامة أمشى.. مرفوع الهامة أمشى.. فى كفى قصفة زيتون.. وعلى كتفى نعشى، وأنا أمشى وأنا أمشى". اليوم.. حدث بالفعل ومشى سميح القاسم صاخب جداريات الصمود وأمين سر شعر المقاومة، ورفيق درب شاعر العربية الأكبر محمود درويش، وصديق أغلب الشعراء والأدباء والنقاد العرب، والمقرب من أغلب الشعراء الشباب فى الوطن العربى، صاحب الروح الوثابة والقلب الحانى والعيون الضاحكة والقلب الكبير، شاهد المذبحة وشهيد الخريطة بعد أن تدهورت حالته الصحية مؤخرا جراء معاناته مع مرض سرطان الكبد اللعين، فكان قدره أن يعانى داخليا من سرطان الكبد بعد أن عانى طوال حياته من سرطان الأمة العربية المسمى بـ"إسرائيل".

من نفس القسم الثقافي