الثقافي
"الدخلاء" لسارة النمس.. جزائرُ الأحلام المغتالة
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 02 جولية 2014
تحاول الجزائرية سارة النمس في مجموعتها القصصية "الدخلاء" مقاربة ومعالجة عدد من الأوبئة الاجتماعية التي تتحكم بحياة الناس وتُقولبهم بقوالب متحجرة تفرض عليهم أنواعا معينة من السلوكيات، بحيث يقابَل أي تجديد بنوع من التجريم، ويغدو التغيير مبعثاً للاتهام بالاستهتار بالقيم وتخريب المجتمع.
وتحوي مجموعة "الدخلاء" التي نشرتها دار فضاءات بعمان خمس قصص: "القطة.. سيدة البيت"، و"انتحار شاب طموح"، و"في غياهب الشهوة"، و"لعنة الأصابع" و"رجل على حافة الذاكرة"، وتختار الكاتبة عنوانا يرمز إلى حال تشظي شخصيات قصصها، يشكل معبراً لها لتربط بين ما تطرحه وما تعيشه، ويكون التصادم بين العوالم سمة بارزة وكأنها أمام مواجهة حتمية شاملة دامية.
أحلام دامية
الحلم هو العنصر الأكثر حضوراً في المجموعة، لا سيما عند توصيف حالة التحطم والتحول لكوابيس، حيث يغدو نقطة تُؤلم بدلاً من أن يكون مصدر الأمل المفترض. يختلط الحلم مع الوهم في ثنائية تعكر صفو الحياة، وتقلب الواقع إلى غم ونكد، كما يحدث في القصة الأولى "القطة سيدة البيت"، إذ تنتقل العروس الجديدة مع عريسها إلى البلدة التي تختارها لقضاء شهر العسل، وهناك تغزوها التوهمات، تتخيل القطط تنهش جسدها، ترى امرأة تنتقم منها وتكاد تشوهها، وحين تصارح زوجها بذلك ينعتها بالاختلاق والتوهم، وينصحها بالواقعية وتناسي الوساوس، وبعد أيام تخف حالتها، وتنتقل عدواها لزوجها، وعندها يشعر بانشطاره ويحكي غرائب التخيلات لها، فلا يكون منها إلا أن تنصحه بما كان ينصحها به سابقاً.
الانتحار بدوره يكون تيمة رئيسية تتخلل قصص النمس، فشخصياتها على أعتاب الانتحار تنوس بين الإقدام والإحجام، ولا تكاد قصة من قصصها الخمس تخلو من رغبة الأبطال والبطلات في التخلص من الواقع بطريقة أو أخرى، وكأن ذلك ردها على انسداد الأفق أمامها، ووسيلتها لتحدي القيود التي تكبلها وتبقيها رهائن فروض الآخرين ورغباتهم المدمرة.
في قصتها "انتحار شاب طموح" تصور شاباً في مقتبل العمر، يطمح إلى تغيير مجتمعه وتحقيق إنجازات كبيرة ولافتة، يجبر على تحمل الآخرين رغم فداحة الأخطاء التي يرتكبونها بحقه وبحق أنفسهم وبلدهم، يجد نفسه مرغماً على التحمل والمجاراة والغفران، يبرر لهم من منطلق الأخوة، يصرح لنفسه أنه يعيش في مجتمع لا يحترم حتى ما يرتدي الآخر فكيف يتحدث عن الحريات الأخرى، يتعجب من صيغة تسول الرجل الحرية والديمقراطية من حكومته وهو يمارس دكتاتوريته واستبداده في بيته على زوجته وأولاده ويتشبث بعادات بائسة من شأنها الحط من قيمة المرء.
يفكر الشاب في تأسيس حزب للشباب الوطني، يطرح عليهم أفكاره السياسية وأحلامه المستقبلية للوطن وأبنائه، لكنه يصدم بالنظرة المسبقة والاتهام بالسطحية والاندفاع والسذاجة، يحاول التلون كالساسة، يجزم أنه سيكون سياسياً ناجحاً وقد يترشح للرئاسة، وفي مفارقة ساخرة مفعمة بالمرارة، يتوجه بخطاب مفترض لنفسه ولشعبه: ".. وها أنا أعدكم منذ الآن إن أصبحت رئيساً لن أتخلى عنك شعبي العزيز، وسأكون وفياً لكم وللكرسي، وإن قلتم لي ارحل لن أرحل، سأتقبل شكاويكم برحابة صدر وسأتفهم مزاجكم".
قهر وعنف
قريباً من حالة القصة الأولى، تنسج القاصة قصتها الأخيرة "رجل على حافة الذاكرة"، حيث هاجر الفتاة الحالمة بحبيبها جورج تنتكس برفض المجتمع لحبهما لاختلاف الدين، تتفق مع حبيبها على الانتحار، وفي اللحظة الأخيرة تجبن، في حين يكمل شريكها رحلته نحو الموت، لأنه يرى الرحيل عن الحياة أكثر راحة من التفريق بينهما، وبعد مدة تحاول الفتاة الخروج من حالتها ومحنتها، يتقرب لها أحدهم، تحاول تكييف نفسها وفق معطيات الواقع الجديدة، تقبل الاقتران به، ثم تجتاحها الخيالات والتوهمات التي تودي بها في رحلة إغراق مؤلمة.
تصف النمس حالات من القهر الاجتماعي، والعنف المركب الواقع على المرأة، ففي قصتها "في غياهب الشهوة" تعالج حالة فتاة في مجتمع قروي تقدم بها السن، تبدأ الأقاويل تنهش سيرتها، وهي التي تجهل مكامن الشهوة وتقمع بدورها رغباتها وجسدها، تتواطؤ على نفسها وتقمع رغباتها المقموعة أصلاً، يتراكب القمع ويتعاظم الأسى، ينتهي بها الأمر إلى نوع من الهلوسة بعد أن تعاني المرارات وهي تحلم بالخلاص، وغياهب الشهوة تكون غياهب الجهل والتخلف التي تعطل طاقات أفراد المجتمع، والحلم المنكسر يكون تجلياً من تجليات السوداوية المعممة والتشاؤم السائد.
يسود على القصص جو من الكآبة حيث تقاوم الشخصيات شياطينها وعداواتها وتجاهد للتخلص من قيود كثيرة مفروضة عليها، وتسهو في حالة الهذيان والتخيل والأوهام التي تقض المضاجع وتعكر صفو الحياة عن سبل النجاة ومسالك الخلاص، فتتخبط في دائرة مفرغة من العبث، وترتكن لعدم الاكتراث لأمر أو شيء، وكأنها بذلك تواجه عبثية الواقع واغتيال أحلامها.
تنوع صاحبة "الحب بنكهة جزائرية" في طريقة القص، كل قصة تجربة فنية بالموازاة مع الولوج في عوالم معينة، تتمازج فيها صور الذات وهزائمها مع خيبات الآخرين ونكساتهم.
تنتقل من راوٍ كلي محتجب، إلى سارد مذكَّر، ثم إلى بطلة تحكي حكايتها، يرافق التبديل والتنويع في القص تنويع في اللغة القصصية، حيث تكتب بلغة شاعرية حين تحكي أسى المحبين، لتنتقل إلى لغة عنيفة، وكأنها تتماهى مع عنف الممارسة، وتصور مشاهد تتبادل الشخصيات فيها أدوار العنف والتعنيف.
عن الجزيرة نت