الثقافي

ياسمينة خضرا يوقع روايته "الملائكة تموت بجراحنا"

طابور طويل من القراء تشكل للحصول على روايته

 

كان المشهد غير عادي أمام احدى دور النشر لا لسبب إلا لوجود الروائي الجزائري المغترب ياسمينة خضرا الذي وقع كتابه أول أمس بالصالون الدولي للكتاب في طبعته الـ18 . وعبر ياسمينة خضرا عن سعادته لوجود هذا الكم الهائل من الحشود لاشتراء روايته الكبيرة قائلا "أخيرا فهم الجزائري أهمية الكتاب في حياته، فعندما أرى كل هذا الجمهور الحاضر في جناح دار القصبة، ليس جمهوري فقط بل جمهور الصالون برمته" . ويسرد خضرا في هذه الرواية قصة صعود وسقوط ملاكم جزائري في فترة ما بين الحربين العالميتين، ومن خلال ذلك يخط ملمحا دقيقا ومؤثرا لوطنه أثناء تلك المرحلة. 

يحمل بطل الرواية اسم القرية التي وُلد فيها "تورامبو" والتي انمحت عن الخريطة على اثر انهيار تربتها، وبسبب هذه الحادثة ينتقل للعيش مع عائلته في حي فقير حيث البقاء على قيد الحياة يتطلب كدّا يوميا. لكن تورامبو طفل مشاغب وغير قادر على البقاء في عمل ما أكثر من بضعة أيام. وخلال سنوات عمره الأولى في هذا الحي سيتعلم العنف وقسوة الحياة. أما الأمل فلن يعرفه إلا حين يرافق أحد أصدقائه إلى مدينة سيدي بلعباس ويتبين له أن ثمة حياة أخرى ملونة غير تلك السوداء التي اختبرها، ثم حين يلاقي حيّه مصير قريته ينتقل مع عائلته للعيش في مدينة وهران. وفي هذه المدينة يمضي تورامبو وقته تائها في شوارعها ومتأملا بمتعة كبيرة اختلاط الثقافات العربية والغجرية والغربية فيها، كما يتعرّف إلى الفتى الإيطالي "جينو" فيرتبط به بصداقة عميقة. إلى أن يلفت في أحد الأيام انتباه مدرّب ملاكمة عندما يطرح أحد أبطال هذه الرياضة بضربة واحدة لتعرّضه لصديقه. من هنا تبدأ رحلة حياة جديدة له يعرف فيها البحبوحة وحمّى الحلبات. وبفضل تمويل أحد الأثرياء الفرنسيين لتدريبه ورعايته له، يعرف شهرة كبيرة ويتردد اسمه على جميع الشفاه. لكن المجد والثراء لن يُفقدا بطلنا براءته التي تحول دون استسلامه لعالم قائم على الجشع والكسب السريع للمال. فالوداعة الكامنة في أعماقه تجعله يكره العنف ويحلم بالحب القادر وحده -في نظره- على سد عطشه للمطلق. لكن تورامبو لا يعرف النجاح في حياته العاطفية كما عرفه في الملاكمة. ففي البداية، يغذي شغفا سريا بابنة خالته "نورا" قبل أن يتحطم قلبه حين يعود يوما إلى المنزل ليجد أن عائلته وافقت على تزويجها من رجل إقطاعي ثري. بعد ذلك، يولع ببنت الهوى "عيدا" التي يكتشف معها ملذات الجسد لكنها تصد محاولته تحريرها من وضعها عبر الزواج منها. ثم يأتي دور "لويز" ابنة الثري الذي كان يموّل تدريبه وسيمنعه من الاقتراب منها. ويجب انتظار لقائه بإيرين، المرأة المتحررة والقوية، كي يعرف تورامبو الحب الحقيقي ويعثر على معنى لحياته ويتعلم القاعدتين اللتين لا يمكن لأي علاقة غرامية أن تنمو من دونهما: الثقة المطلقة والاحترام المتبادل. ولأنها ابنة ملاكم سابق كبير، تقنعه إيرين بالنتائج الخطيرة لحياة يتعلق المجد فيها فقط بقبضة صاحبها. ومع أن تورامبو سيتخلى عن الحلبة والشهرة من أجل حبه لها، فإن ذلك لن يحول دون وقوع مأساة كبيرة تتوّج مساره وتقوده إلى المقصلة. وتفتننا هذه الرواية بقصتها التي تبدو عند الوهلة الأولى قصة مستهلكة لشخص وُلد وترعرع في محيط فقير قبل أن يصطدم بعالم الأغنياء والمستعمرين العدائي ويتمكن من التفوق على قدره البائس بفضل الرياضة. لكن خضرا ينجح في تجديد هذا النوع وجعل روايته شديدة الجاذبية ومؤثّرة بفضل تسريع إيقاع أحداثها ومدها بحبكة متينة وتوظيف مهارات سردية وكتابية كثيرة فيها، وأيضا بفضل براعته في رسم شخصياتها الغنية بالألوان وغرفه مادتها من ذكريات عائلته، وبالتالي كتابته إياها من أقرب مسافة ممكنة من عواطفه وقصته الشخصية. هكذا تتحول حياة تورامبو تحت أنظارنا إلى ملحمة مسرودة بلغة مكثفة وملوّنة، يتقابل فيها الحلم الجزائري بالانعتاق مع نير المستعمر الفرنسي من دون أن تفقد ذلك الخيط الإنساني الذي يحبك خضرا بواسطته جميع رواياته. وفي هذا السياق، يمكن أن نقرأ عنف رياضة الملاكمة المعالَج بإسهاب في هذا النص كاستعارة لعنف العلاقات الاجتماعية بين الجزائريين والفرنسيين آنذاك، كما تتجلى الجزائر خلال تلك الفترة كفضاء تناقض صارخ يختلط داخله الثراء الأكثر بريقا بالبؤس الأكثر سوادا.

فيصل.ش

من نفس القسم الثقافي