الثقافي
ذاكرة أمة حماها الاستقلال وتصونها الجزائر الجديدة
الأرشيف الوطني خلال ستون سنة من السيادة الوطنية
- بقلم سارة زموش
- نشر في 03 أكتوبر 2022
على مدار العقود الماضية كانت ولا تزال الذاكرة الوطنية جزء لا يتجزأ من سيادة الدولة الجزائرية ولأجل ذلك فقد عملت الجزائر المستقلة على بناء وتكوين رصيد أرشيفي يحفظ هذه الذاكرة، ويكون قاعدة ومنطلق لعمل المؤرخين في كتابة تاريخ الجزائر المجيد عبر كل أزمنته لتستفيد منه الأجيال القادمة، ولأن الأرشيف الوطني هو ذاكرة الجزائر الرسمية وتراثها التاريخي فان القيادة العليا في الجزائر الجديدة وضعت تثمينه واسترجاع الجزء المنهوب من فرنسا ضمن أولوياتها فأطلقت العديد من المبادرات وسارت في كل الاتجاهات وحققت خطوات متقدمة في إطار مشروع وطني متكامل بدأ يأتي بثماره على أرض الواقع.
- هيكل قانوني وصوت الجزائر المكافحة
لقد تحمّل المؤرخون الوطنيون غداة الاستقلال واجب كتابة تاريخ الجزائر كاملا غير منقوصا لذلك سارعت الدولة الجزائرية منذ السنوات الأولى من الاستقلال إلى "تأطير النشاط الأرشيفي وترسيخ المعايير التقنية المتعلقة بسيره وتنظيمه" وقد أوكلت تسيير هذا الرصيد في البداية إلى كل من وزارة التوجيه الوطني ثم وزارة التربية الوطنية فوزارة الإعلام والثقافة من سنة 1962 إلى غاية 1971، ليتم بعدها وبموجب الأمر رقم 71-36 استحداث أول مؤسسة أرشيفية وضعت آنذاك تحت وصاية مجلس الوزراء، إلى جانب ترسيخ الحق في الاطلاع ومجانيته، ليأتي لاحقا مرسوم 87-11 وبعدها قانون 88-09 الذي قدم تعريفا للأرشيف ومكوناته وتحدث عن اقتناء الأرشيف من الداخل والخارج وشروط الإيداع والاطلاع وكذا الأحكام الناجمة عن إتلاف أو تزوير أو التلاعب بالوثيقة الأرشيفية وغيرها.
ويرجع تاريخ أقدم وثائق الأرشيف الوطني إلى العهد العثماني ابتداءً من القرن السادس عشر وتملك المؤسسة أطنانا من الوثائق جمعت في العشرية الأولي بعد الاستقلال فمنذ تأسيس مؤسسة الأرشيف الوطني أو ما بات يعرف بـ"المركز الوطني للأرشيف" في بداية السبعينيات قامت هذه الأخيرة حملة إنقاذ للوثائق التي كانت موجودة في الدهاليز والأروقة والمخازن وبيوت المستعمرين، وتم إطلاق مشروع هام لاسترجاع الأرشيف الخاص غير المحفوظ وهذا طبعا يتم من خلال تجنيد كل الوسائل المادية والبشرية بالدرجة الأولى، غير أن عراقيل عديدة وقفت أمام المضي قدما في هذا المسعي خلال سنوات السبعينات، الثمينينات وحتى التسعينات بسبب انشغال مؤسسة الأرشيف بتنظيمها الداخلي وهيكلتها، وهو ما عطل مساعي إثراء الرصيد الأرشيفي بالشكل المطلوب والتطلعات آنذاك. وعن ظروف عمل مؤسسة الأرشيف الوطني ودورها في حماية الذاكرة الرسمية للجزائريين يؤكد الإطار السابق بالمديرية العامة للأرشيف الوطني مختار بوروينة أن الدولة الجزائرية هيأت منذ السنوات الأولي للاستقلال الإطار المناسب لتسيير النشاط الأرشيفي بهدف المساهمة في بناء الذاكرة الوطنية كون الأرشيف يعد أشمل من كتابة التاريخ ويمس كل الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمعرفية للمجتمع، ويؤكد ذات المتحدث لـ"الرائد" أن صعوبات عددية واجهتها مؤسسة الأرشيف الوطني منذ تأسيسها جعلتها تأخر نوعا ما في جمع وحفظ كل ما يخص الذاكرة الوطنية، لكن هذا لا يمنع أن نؤكد أن مؤسسة الأرشيف الوطني تملك أرشيفا ضخما يؤرخ لمئات بل ألاف السنين الماضية في تاريخ الجزائر، مضيفا أن هناك أطنان من النسخ وكلومترات من الوثائق مخزنة بالمركز الوطني للأرشيف منها ما يعود إلى عصر الدولة الفاطمية وأخرى لمختلف المراحل الخاصة بثورة التحرير، إضافة إلى نسخ تتحدث عن مختلف مراحل تاريخ الجزائر هذه الوثائق الأرشيفية يضيف بوروينة تخضع لتنظيم قانوني يسمح بعرضها أمام الجمهور واتاحتها للمؤرخين.
- واجب وطني "مقدس" لا يقبل المساومة
ومع بداية الألفية الجديد كثفت الجزائر من مساعيها لإثراء ذاكرتها الوطنية من خلال البحث عن كل الأرشيف الذي له علاقة بالأمة الجزائرية وتمكنت مؤسسة الأرشيف الوطني خلال السنوات الأخيرة من استرجاع رصيد هائل من الأرشيف الذي يخص فترات عديدة من تاريخ الجزائر. ففي سنة 2015 وعيشة الاحتفال بالذكرى الـ 61 لاندلاع ثورة أول نوفمبر استرجعت المؤسسة جزءا من الأرشيف التاريخي من إذاعة "صوت العرب" المصرية، وهو أرشيف يوثق لمختلف مراحل الثورة التحريرية. بينما في سنة 2018 سلمت اللجنة الدولية للصليب الأحمر الأرشيف الوطني الجزائري نسخة من أرشيفها الخاص بعملها في الجزائر خلال حرب التحرير (1954-1962) وهو عبارة عن أكثر من ثلاثين ألف وثيقة وصورة تشمل تقارير عن زيارات لأماكن الاحتجاز، ومراسلات رسمية بين قادة الثورة والاستعمار الفرنسي، ووثائق خاصة بإنشاء الهلال الأحمر الجزائري ومساعدة اللاجئين الجزائريين في تونس والمغرب أو النازحين داخليًا.
كما سلمت فرنسا للجزائر خلال سنة 2020، 22 علبة من نسخ ووثائق ديبلوماسية تغطي الحقبة الممتدة من سنة 1954 إلى سنة 1962 وتتحدث عن أحداث دارت إبان ثورة الجزائر وتتعلق بالسياسة الخارجية لفرنسا في تلك الفترة وذلك ضمن عمل اللجنة الثنائية التي تشكلت لدراسة ملف استرجاع الأرشيف الوطني لدى فرنسا تحت الرئاسة المشتركة لمديري الأرشيف الفرنسي والجزائري.
- تاريخ حافل بالإنجازات
ومع مواصلة تثمين الأرشيف الوطني الموجود في الجزائر واسترجاع الأرشيف الخاص من عدة بلدان وما أنجز خلال السنوات الماضية يبقي الأرشيف الجزائري "المنهوب" من طرف فرنسا أكثر الملفات أولوية عندما نفتح موضوع الأرشيف والذاكرة الوطنية. وتاريخيا بدأت السلطات الجزائرية في مطالبة نظرائهم الفرنسيين بتسليم الأرشيفات التي هربتّ ما بين 1961 و1962 في بداية الثمانينيات، حيث بدأت المفاوضات بين الجزائر وباريس، من خلال تشكيل لجانٍ مشتركة. ويشير في هذا السياق أستاذ التاريخ بجامعة الجزائر محمد بشيري أن الحكومة الجزائرية تكون قد شرعت في وقت مبكر من الاستقلال في تكرار هذه المطالب التي استمرت على مدار الستون عاما الماضية، وأوضح بشيري في تصريح لـ"الرائد" أن الطرف الفرنسي وافق في الثمانينات على التفاوض حول ملف الأرشيف من حيث المبدأ وجرى تشكيل فوج مشترك جزائري فرنسي مثّل الطرف الجزائري فيه المديرون الجهويين الثلاثة للأرشيف في الشرق والغرب والوسط، وعقد فوج العمل المشترك تسعة اجتماعات مطولة ما بين جانفي 1980 وأكتوبر1981، وأمضى الطرفان على محاضر الاجتماعات، طالبت فيها الجزائر بشكل واضح وصريح باسترجاع الأرشيفات المرحلة.
ورغم أن السلطات الفرنسية حاولت استعمال الحجج الواهية حول أن ما قامت بترحيله هو أرشيف السيادة وأنه غير قابل للتنازل عنه، إلا أن الجزائر استعملت كافة حقوقها القانونية للدفاع عن حقها في استرجاع أرشيفها مستعينة بترسانة من القوانين التي تسمح لها بتحقيق مطالبها والحق في استرجاع أرشيفها المنهوب، والتي تنص على حق الدول المستقلة حديثا في ممارسة سيادتها بأثر رجعي على الأرشيفات التي كتبت وحفظت على أراضيها، يضيف ذات المتحدث.
- العودة للواجهة من جديد
بعدها توقفت مساعي استرجاع الأرشيف من فرنسا خلال فترة التسعينات بسبب الظروف الأمنية التي عرفتها بلادنا امتدت لسنوات، لتعود من جديد هذه المطالب بشكل قوي وبنتائج مثمرة العشرية الأخيرة لعل أبرزها في سنة 2001 حيث بدأ المركز الوطني للأرشيف، يقود حملة جديدة على مستوى الهيئات والمؤسسات الأرشيفات الدولية بهدف إعادة بعث قضية الأرشيف الجزائري المرحل من الجزائر إلى فرنسا، وقد أثمرت هذه الحملة افتكاك موافقة من المجلس الدولي للأرشيف على خلق مجموعة عمل خاصة بما يسمى بـ"الأرشيفات المرحّلة" ترأسها الجزائر، أوكلت لها أهداف عدّة أهمها تسليم قوائم الأرشيف المتوفر الذي تكون ملكيته محل نزاع.
وأيضا حين وقعت الجزائر وفرنسا في 2009 اتفاقية تعاون من أجل الوصول إلى حلّ يخص طريقة تسليم الأرشيف الجزائري الموجود على الأراضي الفرنسية، ورغم أن الأمر اقتصر على الاتفاق بشأن تسليم نسخ عنه وذلك بصورة "مرحلية ومؤقتة" غير ان الطرف الفرنسي بعدها لم يظهر جدية في التعامل مع الملف وهو ما جعل ملف الأرشيف المنهوب يوضع في الأدراج لفترة.
تاريخيا لا تمرّ مناسبة وطنية إلا ويتحدث فيها المسؤولون الرسميون في بلادنا عن مساعيهم الحثيثة لجلب الأرشيف، الذي يصل طوله إلى 10 كيلومترات، ويخص الأمر بقرابة طنين من المواد الأرشيفية التي استحوذت عليها السلطات الاستعمارية وتضم كل مجالات الحياة الإدارية والسياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية للجزائريين خلال الحقبة الاستعمارية، بالإضافة إلى 1500 علبة من الأرشيفات الجزائرية ما قبل الاحتلال الفرنسي، وبالتحديد تخص فترة الوجود العثماني بالجزائر خلال القرنين الـ 16 والـ 17.
- قرارات حازمة
اليوم وبعد مرور 60 سنة من الاستقلال، تبدو السلطة الرسمية في الجزائر متمسكة ومستمرة في معركتها للحصول على هذا الأرشيف، ففي عهد الجزائر الجديدة أُعطي بعد أخر لملف الأرشيف من قبل رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، والذي صرّح في مناسبات عديدة منذ توليه سدة الحكم في البلاد أن فتح الأرشيف جزء لا يتجزأ من الذاكرة الوطنية، في هذا الصدد يقول أستاذ التاريخ بجامعة الجزائر محمد بشيري أنه مع توّلي الرئيس عبد المجيد تبون سدة الحكم ظهر هناك حزم من الجانب الجزائري فيما يتعلق بملف الذاكرة واسترجاع الأرشيف الوطني فالجزائر ومنذ بداية 2020 رفضت التعامل مع أي مبادرات رمزية أو قرارات دون جدوي في هذا الملف من الجانب الفرنسي، فالجزائر رفضت حتى التعليق على التقرير الذي أعده المؤرخ بنجامين ستورا للرئاسة الفرنسية، العام الماضي، والذي يقترح "مصالحة الذاكرات" و"كتابة مشتركة للتاريخ". وحسب بشيري فقد تجلي اهتمام السلطات العليا بملف استرجاع الأرشيف الوطني في أوجه عديدة حيث تسعى الجزائر لاسترجاع كل ماله علاقة بكتابة تاريخ الجزائر والحركة الوطنية وثورة التحرير على وجه الخصوص، وتسجيل كافة صور تضحيات الشعب الجزائري من أجل الحفاظ على هويته وحريته وأرضه عبر جميع الحقب التاريخية. وتحرص الجزائر الجديدة على استجلاء كافة محطات التاريخ لرد كل محاولات التزوير ومناورات التيارات العنصرية التي تحقد على الجزائر في الضفة الأخرى، وبالمقابل الحفاظ على حق الأجيال الصاعدة في معرفة تاريخها الحقيقي بكل موضوعية.
وفي جويلية 2020 كلف رئيس الجمهورية عبد المجيد تبّون مستشاره المكلف الذاكرة الوطنية والمدير العام لمؤسسة الأرشيف الوطني عبد المجيد شيخي بالعمل مع المؤرخ الفرنسي ذي الأصول الجزائرية بن جامين ستورا على الملفات المتعلقة بالذاكرة الوطنية واسترجاع الأرشيف الوطني وخلال تصريحات للتلفزيون العمومي جدد شيخي المطالبة باسترداد "كامل" للأرشيف العائد للحقبة الاستعمارية والأرشيف الذي يعود للفترة العثمانية. وذكر شيخي بأن "رئيس الجمهورية قال في العديد من المناسبات إننا نريد أن يطلع شعبنا على كلّ التاريخ من دون استثناء وبدون لا تمليق ولا تزويق"، وبسبب الضغط الذي مارسته السلطات العليا في البلاد فان فرنسا أعلنت بعدها بأشهر رفع السرية عن أرشيف ما يسمى بـ "التحقيقات القضائية" لفترة الاستعمار ورغم أن مراقبين ومؤرخين اعتبروا أن الخطوة مناورة فرنسية جديدة إلا أن رمزية القرار مثل دفعا جديدا لملف استرجاع الأرشيف الوطني.
بعدها وبسبب رفض الجزائر للمقاربة الفرنسية حول آليات وخطوات معالجة ملفات وقضايا التاريخ العالقة تعطّل عمل اللجنة الثنائية الجزائرية الفرنسية فيما يتعلق بالملف غير أن مساعي الجزائر بقيت متواصلة لاسترجاع أرشيفها وهو ما انتهي بتشكيل لجنة ثانية وهو القرار الذي أعلن عنه الرئيس عبد المجيد تبون ونضيره الفرنسي ايمانويل ماكرون في زيارة هذا الأخير للجزائر أوت الماضي، ويعوّل على هذه اللجنة أن تحقق للجزائر انتصارا تاريخيا جديدا في ملف استرجاع الأرشيف الوطني كالذي حققته في بداية العهدة الرئاسية للرئيس تبون عندما استرجعت الجزائر رفات 24 من قادة المقاومة الشعبية، على متن طائرة عسكرية من القوات الجوية الجزائرية، أشرف الرئيس على استقبالها في إنجاز تاريخي يعتبر خطوة نحو إنجازات أخرى ستختتم عندما تسترجع الجزائر كل ما نُهب من طرف المستعمر.