الثقافي
صور فوتوغرافية من الجزائر... أجداد وأحفاد نوفمبر
تزامنا مع ذكرى عيد النصر
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 15 مارس 2020
تفتح الصور الفوتوغرافية الجزائرية بالأبيض والأسود مجالاً تعبيرياً واضحاً وسهلاً، سهولة الماء وعمقه: ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، ولكم تبدو هذه العبارة غريبة في اللحظة العربية الراهنة، لكن الصور الجزائرية القديمة مقارنة بإمكانات التصوير الهائلة التي يمنحها موبايل بدقة 20 "ميغا بكسل"، تقدم درساً بقدر ما هو فوتوغرافي، هو أيضاً تاريخي "الصورة لا تخرج من حجرة الكاميرا المظلمة، إنما من عقل متفجر"، إنه ذات العقل غير المذعن حين يكتب تاريخه بيد حرة.
في الحي الثقافي "كتارا" بالعاصمة القطرية الدوحة، اختير المبنى رقم 19 لمعرض "الملحمة التاريخية لكفاح الشعب الجزائري" الذي ينظم بالتعاون مع السفارة الجزائرية لدى قطر، بمناسبة الذكرى الثامنة والخمسين لـ"عيد النصر" التي ستحل في 19 مارس الحالي.
هذا التاريخ سجلته الجزائر عام 1962. في شهر مارس من ذلك العام، وقعت اتفاقية "إيفيان" بين "جبهة التحرير الوطني" الجزائرية والمستعمر الفرنسي، وفي اليوم التالي أي التاسع عشر من الشهر، جرى وقف إطلاق النار في كل البلاد.
ومعرض الصور الفوتوغرافية المستمر حتى 17 الجاري، يقدم عشرات الصور التي لا تحكي مناسبة التوقيع النهائي وقد أجبر واحداً من أبشع الاستعمارات على الجلاء، بل يستعرض طريق الحرية الطويل.
تتوزع الصور بين مرحلتين، الأولى من عام 1830 حتى 1954، والثانية من 1954 حتى 1962.
ليسوا فقط "أولاد نوفمبر" كما اختار فيلم موسى حداد قصة تدور في التاريخ الجزائري الذي انكتب في نوفمبر/ تشرين الثاني 1954، مع البيان رقم واحد، أو ساعة الصفر لحرب التحرير الوطني التي امتدت سبع سنوات ونصف السنة.
إنهم أجداد نوفمبر وأحفاده، بما يعني أنّ نوفمبر هو تراكم وعي للذات التي تعرضت للاستباحة، لكنها لم تمح، أو لم تتحول (وهو الأسوأ) إلى تنعيج ذهني.
عند إعلان وقف إطلاق النار عام 1962، كان الجزائريون يقلبون صفحة استعمار استمر 132 سنة. وكما هي عادة الشعوب تختار أبرز التواريخ التي تؤسس دولة ما بعد الاستقلال، وهي في الجزائر بين أمثلة نادرة في العالم، تواريخ لا تمر على غفلة، كما الدول التي منحت الاستقلال منحاً.
5 يوليو/ تموز عيد الاستقلال، وهو ليس اليوم الذي وقّع فيه مرسوم الاستقلال، يوم الثالث من الشهر، لكنه اختير من الجبهة، ليمحو تاريخ 5 يوليو/ تموز 1830 الذي شهد استسلام الداي حسين ممثل الدولة العثمانية أمام الأسطول الفرنسي.
هنا تعرض بين الصور بضع لوحات تخص المرحلة الأولى في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، ولغاية توضيحية، مثل حادثة المنشّة، أو المروحة التي وقعت يوم 29 إبريل/ نيسان 1827.
هناك لوحة للأسطول الفرنسي وهو يحتل شبه جزيرة سيدي فرج، في 14 يونيو/ حزيران 1830. ولوحة لمعركة سطاوالي بين القوات الاستعمارية وقوات الداي حسين، في 19 يونيو/ حزيران 1830.
يتوقف المشاهد أمام لوحة المروحة، الذريعة التي درسناها في كتب المدارس، وتحيل استعمار الجزائر إلى غضبة الداي حسين من القنصل الفرنسي غير المهذب، وطرده من مجلسه، وهو يلوّح بالمروحة أو يضربه بها، فتذرعت فرنسا بها لتستعمر شعباً، دفاعاً عن كرامة دولة القنصل.
ثمة أوجه شبه كثيرة بين الدول العظمى والرجال الحمقى، لكن قوة المدافع، ومن بعدها قنابل النابالم تزين الحماقة وتريدها مرجعية للجيل القادم.
ماذا كان يفعل المدرسون الفرنسيون في الجزائر؟ كانوا يلقنون الطفل الجزائري في المدرسة الابتدائية بأن الغال أجداده.
تردّ على ذلك صورة فوتوغرافية لطفل يحمل جرة ماء صغيرة، ويسقي مناضلاً من جيش التحرير في جبال الجزائر.
بماذا يمكن وصف شخص مدين لشخص آخر، يبسط الوعود لحل مشكلة الدين، ثم يخطفه وهو في الطريق إلى المقهى؟
هذه صورة لوفد "جبهة التحرير": أحمد بن بلة، ومحمد خيضر، وحسين آيت أحمد، ومحمد بوضياف، ومعهم الكاتب الصحافي مصطفى الأشرف، أمام الطائرة التي أقلتهم من المغرب إلى تونس، لكن فرنسا كانت أول دولة في العالم تخطف طائرة، وتسوقها فوق البحر المتوسط، إلى الجزائر العاصمة، وتلقي بزعماء الثورة في الزنازين.
حدث هذا عام 1956، مع أنّ هناك ثمانية شهور من المفاوضات، فلماذا تخطف من تفاوضهم؟ حدث هذا قبل أن يضيف مندوبو الدول العظمى ببدلاتهم الأنيقة بنداً جديداً للإرهاب: أن تخطف طائرة ورقية أنت إذن إرهابي.
في العام 1954، عند منتصف ليلة 31 أكتوبر/ تشرين الأول، لن يكون بالإمكان الحصول على صورة لـ"مجموعة الاثنين وعشرين التاريخية" وهي تعلن ساعة الصفر لبدء الثورة المسلحة، وتوزيع المنشورات للحاضنة الشعبية في البلاد.
لكن في المعرض، كما في كل المسار التذكاري لحرب التحرير، يظهر هؤلاء في كادر واحد يضم 22 صورة شخصية لثوار اتفقوا على ساعة القتال، بينما يتولى أعضاء "جبهة التحرير" في الخارج تدويل القضية الجزائرية.
أحد هؤلاء، بل وأبرزهم هو مصطفى بن بولعيد، الذي يُعرض، مساء اليوم، في مسرح الدراما بـ"كتارا" فيلم يحمل اسمه، وهو إصدار 2008 من إخراج أحمد راشدي.
قصة بولعيد التي ختمت بدمائه، تروى وتروى إلى الأبد.
يذهب المشاهد إلى مجموعة من الصور تحت عنوان "البعد العربي والدولي للثورة الجزائرية". وفود تجوب الدول وتلقى قضية الجزائر دعماً من الدول الاشتراكية، وفي المقدمة مصر، والرئيس جمال عبد الناصر الذي أمد الثوار بالسلاح، وكانت إذاعة "صوت العرب" صوتاً للجزائريين، ما أثار غضب فرنسا التي اعتبرتها تدخلاً مصرياً في شأن فرنسي داخلي.
كما تعرض صورة لاستقبال الجنرال الفيتنامي فون نجوين جياب وفداً جزائرياً. كانت فيتنام حققت انتصاراً على المستعمر الفرنسي، وألهمت معركتها الشهيرة ديان بيان فو الرازحين تحت الاستعمار.
تضم المجموعة أيضاً صوراً لافتة للمقاتلات الجزائريات مسلحات بالبنادق، أو في الإسعافات الطبية للجرحى.
يستمر المعرض حتى السابع عشر من الشهر الجاري، في المبنى رقم 19، الذي يصادف رقم تاريخ 19 مارس/ آذار، "عيد النصر"، وقد سبقته بسنوات كلمات مفدي زكريا "نحن ثرنا فحياة أو ممات".