الثقافي

فيلم «ستموت في العشرين» والدهشة الأولى

يبدو كموجة سينمائية جديدة تجتاح بلداً يولد أيضاً من جديد من رحم الثورة

سرّ الحياة الأكبر هو لغز الموت الذي نتفهمه ولا نفهمه، ولا نعرف ساعة حدوثه، ولكن كيف ستكون حياتنا، لو كنا نعرف مسبقاً تاريخ موتنا؟

حول إشكالية الموت والحياة هذه، تدور أحداث فيلم «ستموت في العشرين» للمخرج السوداني أمجد أبو العلا، الذي عرض في دبي مؤخراً، وامتلأت صالة السينما بالجالية السودانية، التي قد يكون الفضول دافعها الأول للمجيء، بعد أن سبقت سمعة الفيلم والجوائز التي نالها العرض، ولكن بلا أدنى شك حضر السودانيون الفيلم، وهم عطشى للفن السابع، بعد أن فرضت عليهم الإقامة الجبرية لمدة ثلاثة عقود في بلد أغلقت صالات السينما فيه، وتوقف الإنتاج السينمائي فيه منذ عشرين سنة.

وقد بدأ التحضير لهذا الفيلم قبل ثلاث سنوات، خلال فترة حكم البشير المعادية للفنون والإبداع، وكانت التجربة مجازفة دخلها المخرج الشاب الذي عاد إلى أرض أجداده، بحثاً عن القصص التي لم ترو، والوجوه التي لم تعرفها الكاميرا، وأماكن التصوير العذراء.

واختار أبو العلا قصة قصيرة بعنوان «النوم عند قدمي الجبل» للكاتب السوداني حمور زيادة، ليصنع فيلمه الروائي الطويل الأول عن السودان، الذي أمضى فيه سنوات طفولته قبل أن يغادر مع عائلته إلى الإمارات العربية، وقد أضاف الكثير من ذاكرته الطفولية إلى القصة التي تدور حول الطفل مزمل، الذي يتنبأ له أحد الشيوخ الصوفيين وهو رضيع بالموت في سن العشرين، بعد أن يفقد أحد الدراويش وعيه في التسبيحة العشرين، فيتحول مزمل إلى إنسان ميت، أو حي في انتظار الموت.

والد الفتى يخاف الارتباط العاطفي بطفل محكوم عليه مسبقاً بالموت، فيسافر إلى إثيوبيا بحثاً عن عمل كحجة للغياب، ولا يعود إلا بعد عشرين سنة ليبحث عن كفن لابن عاش غريباً عنه. أما الأم التي لعبت دورها بتميز الممثلة السودانية إسلام مبارك، فهي المرأة القوية التي تمسك بخيوط لعبة الحياة والموت، وتنذر نفسها لتربية ابنها، لكي يكون ابناً باراً للموت، فترتدي الأسود حداداً عليه في حياته، مستسلمة لحزن بلاد النوبة الأسمر، الذي يتحول لعادة وجلد للذات.

وهكذا يعيش «مزمل النور» حياته في عتمة أشبه بالقبر، ويموت عشرات المرات في حياته، ويتعرض للتنمر من الأطفال الذين يحاولون استباق الموت، فيدهنون جسد الطفل بالرماد ويكفنونه، ثم يلقون به في صندوق، في مشهد شديد القسوة رغم جماليته السينمائية، ولا يبقى للفتى من صديق، سوى طفل مصاب بمتلازمة داون، محكوم عليه أيضاً بعمر قصير. وتحت سطوة هذه النبوءة اللعينة يعيش الفتى من دون أن يجرؤ على الحب والحلم، في حياة تعيسة نذر لها أن تكون قصيرة جداً، ويمر الزمن ثقيلاً عليه، وهو لا يعرف الحساب، بل سنين عمره يراها خطوطاً تحفرها الأم على جدران غرفة مظلمة، ليعدها الطفل، كما يعد السجين أيامه على جدران زنزانته.

بل إن مفهوم الزمن في الفيلم يبدو غائباً وكأن القرية منسية تماماً، وهي قرية استحضرها المخرج أيضاً من ذاكرة طفولته في منطقة الجزيرة وسط السودان، حيث تنتشر المزارات والقبب الصوفية. وعلى الرغم من أن رسالة الفيلم تكمن في إدانة للممارسات والمفاهيم الخاطئة في الصوفية، إلا أن الصوفية حضرت أيضاً في الفيلم بألوانها الزاهية وموسيقاها، كما في مشهد البداية، حيث يبارك الشيخ الصوفي الرضيع مزمل، أو في مشهد الدراويش على متن القوارب الحمر، التي تعبر النيل الأزرق في مشهد ساحر يحيلنا إلى فيلم «المرح الباكي» للمخرج اليوناني أنجيلوبولوس. ولأن كل الجهات تقود إلى النيل في بلاد النوبة، فهو يكنى بالبحر، ويصفه الروائي الطيب صالح بـ«الإله الأفعى»، لهذا نراه حاضراً بقوة في الفيلم، كما هو حاضر في الحياة السودانية.. نهر بلا بداية ولا نهاية، نبع للحياة وطريق هروب من القرى المنسية النائية، وهو أيضاً فخ للغرق والموت.

أما الناجي الوحيد في الفيلم فهو المصور سليمان، الذي تجرأ على طرح الأسئلة المحرمة وغادر القرية باكراً ليجول الدنيا، ويذوق طعم الحرية، ويكتشف عالم السينما والنساء والخمرة، ثم يعود في شيخوخته إلى مسقط رأسه، حيث سيكون ابن الموت مزمل في انتظاره.

وهنا تحدث نقلة نوعية في حياة الشاب، الذي يكتشف الحياة وراء النيل، فيمسك العم سليمان بيده ويأخذه خارج الصندوق الذي سجن نفسه فيه إلى صندوق الفرجة الكبير «السينما»، مبتدئاً بفيلم الخرطوم للمخرج جاد الله جبارة، حيث تبدو فيه الخرطوم قبل 1989، المدينة التي لم يرها الشاب في حياته، لكنها السينما التي تستطيع المستحيل وتأخذنا إلى عوالم ساحرة وتدخلنا مدناً وثقافات مجهولة. وتأتي فكرة اكتشاف العالم من خلال الشاشة الفضية، والعلاقة بين الشاب مزمل والعم سليمان، لتحيلنا إلى فيلم سينما براديزو، والصالة السينمائية التي كانت أشبه بمدونة لسيرة بشر وبلاد، وهي تحية من الفيلم إلى المخرج الإيطالي الكبير تورناتوري.

ولوهلة تبدو المرأة أيضاً على مرمى شاشة، حين يأخذ العم سليمان مزمل إلى الممثلة هند رستم بكامل سحرها وأنوثتها في فيلم «باب الحديد» للمخرج المصري العالمي يوسف شاهين، الذي اكتشف أبو العلا السينما من خلال أفلامه. وسيذهب المخرج بعيداً في محاكاة ذاكرته، عندما يعرض الشريط صامتاً، تماماً كما رآه عندما كان طفلاً، يتبع شعاع الضوء إلى عالم الدهشة والحلم، بل سيبدو المصور سليمان في الفيلم أشبه بشعاع الضوء، الذي يدخل حياة مزمل الرتيبة والكئيبة، ويعلمه السؤال ومحاكمة العقل، كما يعلمه الحساب، لا ليعد أيامه إلى يوم الحساب، بل ليفتح أمامه أبواب الفكر والمنطق، ويحرر عقله من الخرافة. وفي نهاية الفيلم سيأتي الموت زائراً، وتفوح رائحته من الجسد المنذور له، ولكن هل سيكون هذا جسد مزمل أم سواه؟ وهل سيذهب مزمل للنوم في قبره، كما في القصة الأصلية، أم أنه سيسلك مجرى النيل نحو حريته؟

هكذا هي السينما الحقيقية التي تذهب بعيداً في المخيلة والأسئلة المحرمة، وتتجاوز مقصات الرقابة الرسمية والمجتمعية، وهذا الفيلم مع كل الأسئلة الصعبة التي يعرضها ينتمي بلا شك إلى تلك السينما، بل يبدو كموجة سينمائية جديدة تجتاح بلداً يولد أيضاً من جديد من رحم الثورة.

لن نفسد نهاية الفيلم، بل سنترك للمشاهد متعة الإبحار بعيداً مع الأسئلة الوجودية وثقل المعتقدات الخاطئة، التي تكبل الروح والعقل، كل هذا في تحفة سينمائية متكاملة، أضاف السيناريو فيها الكثير إلى القصة القصيرة، بعد أن مرّ بإحدى عشرة نسخة وورشة كتابة، وشارك أبو العلا في كتابته السيناريست الإماراتي يوسف إبراهيم. أما الصورة السينمائية فكانت على سوية فنية عالية، سجلتها كاميرا المصور الفرنسي سبستيان غوفرت، الذي سبق له التعامل مع المخرجة التونسية المميزة ليلى بوزيد في فيلم «على حلة عيني»، أما عين غوفرت هنا، فقد فتحت أمامنا كمشاهدين، عوالم الصوفية وأضرحة أوليائها، وعبرت بنا البيوت الطينية المتلاصقة، وأبحرت بنا بعيداً في نهر يضبط حياة سكان ضفافه، وكل هذا وفق رؤية بصرية مميزة للمخرج الشاب، الذي شفّر فيلمه برسائل لمخرجيه المفضلين.

فالنساء في عباءاتهن أمام المزارات يذكرن بنساء المخرج المصري شادي عبد السلام في فيلم «المومياء»، بل إن مزمل، الذي قام بدوره الممثل الصاعد مصطفى شحادة بملامحه الفرعونية، يبدو أشبه بمومياء مع كل ما يحمله الموت عند الفراعنة من قدسية وسحر.

ولأن السينما في النهاية هي الغوص عميقاً في النفس البشرية، ولأن مواجهة الكاميرا تشبه كثيراً مواجهة المرآة لم يكن غريباً أن يقترب المخرج أبو العلا في الفيلم من مخاوفه الشخصية، ويحاول التغلب عليها سينمائياً، بدءاً بالموت وانتهاءً بالماء، الذي لم يلمسه يوماً بقدميه، ولمسه مراراً بالكاميرا السينمائية. أما الموت، البطل الرئيسي في الفيلم، فقد كان حاضراً في أغلب المشاهد وإن غاب، فنرى مزمل يسترق السمع لدقات قلب أبيه وهو نائم، فالموت وحده نوم أخرس لا صوت له، ولعل أجمل مشاهد الفيلم هي عندما يصغي مزمل الطفل لقلب مزمل الشاب، أو عندما يتقاسم وجه مزمل الطفل ووجه مزمل الشاب الشاشة وبينهما الأم، في قفزة زمنية ذكية من طفولة البطل إلى شبابه.

من نفس القسم الثقافي