الثقافي

محمد عمارة.. جسر إلى عصر النهضة

ضمن مدوّنته، يمكن استخلاص موسوعة لمفكّري عصر النهضة

لسببَين على الأقل، يجد متابع الحياة الفكرية العربية المعاصرة نفسَه وقد تقاطع مع مدوّنة المفكّر الإسلامي المصري محمد عمارة (1931 - 2020). يتمثّل السبب الأول في كونه مثّل الامتداد المباشر لشقّ أساسي من أعلام عصر النهضة، أولئك الذين اعتبروا أنّ استعادة الأمّة العربية الإسلامية لموقعها كفاعل في التاريخ تكون في الأساس بعناصر من داخلها، استناداً إلى التراث وفهم أعمق للدين، مقابل أطروحة الاستئناس بالنموذج الغربي، ولكليهما وجاهته وحججه.

وفي هذا الإطار يمكن الحديث قبل كل شيء عن محمد عمارة كمحقّق وكاتب سيرة، ثم كمقدّم لمحاولات تطوير فكرية أو محاورات مع رموز تلك المرحلة التاريخية. وهنا يمكن استخلاص ما يشبه موسوعةً لمفكّري عصر النهضة داخل مجموعة كتابات عمارة؛ من ذلك جمعُه وتحقيقه لمؤلّفات رفاعة رافع الطهطاوي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وقاسم أمين وغيرهم.

أمّا السبب الثاني، فيتعلّق بمحاولته الموسّعة لإعادة قراءة المعرفة من زاوية إسلامية ودعوته لبناء منهجيات بحث تستند إلى مسلّمات تضرب جذورها في التراث الديني الذي كان لا يرى له أي تعارض مع العلوم الحديثة. وفي هذا الصدد، لامست كتاباته مجالات متنوّعة من التاريخ إلى الفن مروراً بالفكر السياسي والاقتصادي والحضاري والعلوم الدينية، ولعلّه هنا صاحب أضخم مدوّنة عربية في هذا الاتجاه. نذكر من مؤلّفاته هذه: "الإسلام والفنون الجميلة"، و"الإسلام وفلسفة الحكم"، و"الحملة الفرنسية في الميزان"، و"الإصلاح الديني في القرن العشرين"، و"معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام". لكن إلى أي مدى نجح في هذا المشروع؟

صبّت في تكوين عمارة - الذي رحل يوم الجمعة الماضي - مؤثّرات معرفية كثيرة يبدو أنها هي التي أتاحت له لاحقاً هذا الانتقال بين المباحث والميادين، حيث تأثّر في بداياته بالنزعة الوطنية التي سادت مصر في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، وهي الفترة التي تقابل مرحلة التحصيل المعرفي لديه؛ حيث درس اللغة العربية والعلوم الإسلامية ثم اتّجه إلى دراسة الفلسفة ومنها انتمى لفترة إلى الفكر الماركسي قبل يقترب من دوائر الفكر الإسلامي، ويصبح أحد أبرز أسمائه، خصوصاً على مستوى الكتابة السجالية داخل الحقل الفكري، وكان هذا الدور سبباً في لمعان اسمه.

خصّص عمارة الكثير من أعماله لمجادلة التيارات العلمانية حول قضايا كبرى في مصر والعالم العرب، كما في كتبه: "نهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام"، و"الفتوحات الإسلامية تحرير أم تدمير‬"، و"خطر النزعة التاريخية على ثوابت الإسلام"، وهي أعمال لا تُقرأ إلّا في سياقها ويصعب الخروج منها بفوائد معرفية كبرى، وإن حمل هذا النوع من الكتابة في مدوّنة المفكّر الإسلامي خصوصيةً تتعلّق بكون عدد من حججه يمسّ المسلّمات والفرضيات العميقة للتيارات التي يردّ عليها.

من نفس القسم الثقافي