الثقافي

"بعيدا عن الأنظار" للإيطالي جورجيو ديريتِّي… أنطونيو ليغابوا الذي وجد في الفن خلاصه وملجأه

يشارك به في مهرجان برلين السينمائي الدولي

في فيلمه «بعيدا عن الأنظار» المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي الذي يختتم اليوم فعالياته، يقدم المخرج الإيطالي جورجيو ديريتِّي لوحة سينمائية خصبة الألوان، بديعة التصوير، عن الرسام الإيطالي أنطونيو ليغابوا، فيلم عماده وجوهره هو الأداء المتميز الفذ لممثله الرئيسي الإيطالي إيليو جيرمانو، في دور ليغابوا.

لأنطونيو ليغابوا مكانته الخاصة للغاية في عالم الفن التشكيلي الإيطالي، في منتصف القرن العشرين، فهو الفنان الذي تمثل لوحاته، التي رسمها بفطرته الفنية غير المنمقة وبالسليقة، بدون أن يتلقى تعليما رسميا للفن ومدارسه، انتصارا للفن كدفقة شعورية وتعبير يكاد يكون بدائيا فطريا، لتعاطي الفنان مع العالم ومع محيطه، يرى الكثيرون ليغابوا تجسيدا للفنان بالفطرة وليس بالتعليم والدُربة. تجسيد حياة ليغابوا على الشاشة وتجسيد شخصيته ليسا بالمهمتين اليسيرتين بالمرة، إذا ما أخذنا في الاعتبار المصاعب الجسدية والعقلية والنفسية، والصعوبة في التخاطب التي عاش معها ليغابوا، والتي ربما كان فنه الملاذ للخلاص منها.

يصور الفيلم في بدايته طفولة ليغابوا، التي تجرع فيها البؤس والشقاء والألم، حيث ولد في بدايات القرن العشرين في إيطاليا لأسرة معوزة فقيرة، ثم عُهد به إلى أسرة سويسرية بعد موت أمه وهو طفل. ولكن اليتم والفقر لم يكونا مأساة ليغابوا الوحيدة، فقد وُلد مختلفا عن غيره من الصغار، يعاني مصاعب في الحديث والحركة، ولم يرحم الآخرون اختلافه، فعذبوه واضطهدوه، وأودع المصحات العقلية، التي كان بقاؤه فيها شقاء على شقاء. ونظرا لإعاقته واختلافه عن غيره، تجرع ليغابوا شقاء الطرد من سويسرا، التي لم ترض بمن هم على حالته على أراضيها، وأُعيد إلى إيطاليا ليعمل مقابل نومه وقوت يومه في مزرعة إيطالية. وهناك في هذه المزرعة نشهد بدايات اهتمام ليغابوا بالفن والرسم والمنحوتات، فكان يرسم بفطرته ما يراه من طيور وحيوانات في المزرعة، ويصنع دمى للأطفال الصغار مقابل لقيمات إضافية، ولكن لقاء جادت به الأيام الضنينة بفنان إيطالي في تلك المزرعة، يفتح عالم الفن لليغابوا ويدنيه ممن سيقدرون فنه ويجدون فيه دفقة عبقرية فطرية. يأتينا أداء جيرمانو لشخصية ليغابوا تجسيدا لآلامه وعذاباته، ولدهشة الطفل في عينيه حين يرسم وحين يتأمل الطبيعة، حين تبهره الأشياء الباذخة في الحياة، الأشياء التي حُرم منها صغيرا لفقره. تصور اختلاجات وجه جيرمانو ونظرة عينيه الهائمة عذابات روح ليغابوا ووحشته ومشاعره التي لا يجد مخرجا لها، إلا في فنه وفي اقتنائه للأشياء التي حُرم منها صغيرا.

نجد في جيرمانو جسد ليغابوا النحيل، ومشيته التي أثقلتها إعاقته الجسدية وآلامه النفسية، يضم جسده كما لو كان يحميه من عالم طالما عذبه أحيانا، وأحيانا أخرى نجده متباهيا بفنه وبسياراته ودراجاته النارية، التي ينفق فيها جل أرباحه من لوحاته، وفي مشاهد أخرى يبدو لنا كما لو كان طفلا صغيرا أدهشته الطبيعة، أدهشته التفاتة حصان أو دجاجة في الحقل. وفي مشاهد أخرى يجسد جيرمانو كرجل اعترك الحياة وخبرها، ويعرف القيمة المادية للوحاته التي يتهافت عليها المقتنون وتعرض في المعارض الكبرى.

تجربة مشاهدة «بعيدا عن الأنظار» تجربة ثرية بصريا، تثير فينا الدهشة والإعجاب، ولكنها أيضا مشاهدة متطلبة، تتطلب منا التعاطف الإنساني مع شخص شهد من نفور الناس وظلمهم الكثير، مشاهدة تتطلب منا تقدير الفن في صورته الأصــــدق تعبيرا، صورته الفطرية غير المنمقة.

ولكن يبقى جل تأثير الفيلم معلقا بالأداء الفذ لجيرمانو في الدور الرئيسي. جيرمانو الذي يشحذ كل طاقته في التمثيل والتجسيد ليصور لنا عذابات ليغابــــوا وآلامه ونشوته كفنان مبدع.

من نفس القسم الثقافي