الثقافي
تغريبة الشعر الكوسوفي المعاصر
مثّلت الجزائر وفلسطين رمزين للتعبير عن كفاح الألبان
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 24 فيفري 2020
بعد نهاية حروب يوغسلافيا السابقة 1991 - 1999، برزت كوسوفو باعتبارها الدولة الألبانية الثانية في البلقان، مع أنَّ دستورها، الذي وُضع بضمانات دولية، يُحرّم عليها الاتحاد مع ألبانيا المجاورة. ومن هنا، فإن الشعر الكوسوفي هو مكوّنٌ أساسي في الشعر الألباني الذي تشمل خريطته عدّة دول في البلقان، حيث يعيش الألبان كتلةً واحدة في الدول المتجاورة: ألبانيا وكوسوفو ومقدونيا الشمالية وصربيا والجبل الأسود.
ولكن بالمقارنة مع ألبانيا المجاورة التي ضمّت نصف الألبان بعد استقرار حدودها الحالية في 1920، وُجد النصف الآخر للألبان، الذي أصبح ضمن مملكة يوغسلافيا بموجب مقرّرات مؤتمر الصلح في باريس (1919 - 1920)، في ظروف سياسية وثقافية مختلفة تركت تأثيرها في نموّ الأدب هناك؛ فقد اعترفت مملكة يوغسلافيا بالألبان كأقلية دينية (مسلمة) ولم تعترف بهم كأقلية قومية مثل الألمان والمجر، ولذلك ضمنت لهم الحقوق الدينية (حرية العبادة والدراسة في مدارس دينية إلخ) وحرمتهم من الحقوق القومية (الحق في التعلّم باللغة الألبانية أو النشر بها وغيره).
وبسبب التوتر السياسي بين يوغسلافيا وألبانيا خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، فقد عاش الألبان في قوقعة، مكتفين بما تركت لهم الدولة العثمانية من مدارس ولغة ألبانية مكتوبة بالأبجدية العربية بقي يكتب بها آخر الشعراء المخضرمين موضوعات دينية وصوفية موروثة من الحكم العثماني الطويل؛ مثل الشيخ حسين خلوتي (1873 - 1926)، والشيخ حلمي ماليتشي (1865 - 1928)، والشيخ إسلام بيتيتشي (1910 - 1934)، والشيخ عمر شمسي (1900 - 1945) وغيرهم.
ولكن مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، ضُمّت كوسوفو إلى ألبانيا ضمن الخريطة الجديدة التي تشكّلت في البلقان، وعاد الألبان إلى الحاضنة الثقافية القومية مع افتتاح المدارس وإصدار الصحف والكتب باللغة الألبانية. ومع عودة كوسوفو إلى يوغسلافيا الفدرالية الجديدة في 1945، وفق تفاهمات بين الحزبين الشيوعيَّين الألباني واليوغسلافي، وتمتّعها بحكم ذاتي واسع، انطلق الأدب الكوسوفي الجديد في أواخر الأربعينيات، وأصبحت تُنشر إبداعاته الجديدة في الشعر والنثر في الصفحات الثقافية للجرائد والمجلّات. وفي هذا السياق، لا يبدو مستغرباً أن تصدر أول مجموعة شعرية بالألبانية للشاعر أسعد مكولي (1916 - 1993) في عام 1955 بعنوان "لأجلكِ"، وأن تصدر أول رواية للكاتب سنان حساني (1922 - 2010) في 1957 بعنوان "بدأ العنب ينضج".
صحيح أنَّ الألبان عاشوا معاً في دولتين متجاورتين (ألبانيا ويوغسلافيا) كانتا تتّجهان بسرعة إلى الاتحاد خلال 1945 - 1948، ولكن الخلاف بين ستالين وتيتو أقام جداراً صينياً بينهما مع توجُّه يوغسلافيا التيتوية إلى العالم الثالث والاشتراكية المرنة (التسيير الذاتي). وفي هذه البيئة الجديدة، أصبح الافتراق بين الأدب الألباني واضحاً ما بين كوسوفو وألبانيا، إذ إنَّ ألبانيا الخوجوية باعتبارها "آخر قلعة للستالينية" في العالم كانت حريصة على الالتزام بالجدانوفية في الأدب وترجمة ما كان ينسجم مع المسطرة الجدانوفية من آداب العالم، بينما كانت يوغسلافيا التيتوية أول دولة تتخلّص من الواقعية الاشتراكية وتتحوّل نحو الواقعية السحرية وغيرها، مع انفتاح واضح على ترجمة أحدث إصدارات التيارات الفلسفية والأدبية في الغرب والشرق.
ومع هذا الانفتاح على الشرق أو العالم الثالث من خلال "حركة عدم الانحياز" التي برزت مقدّماتها في الخمسينيات وعقدت قمّتها الأولى في بلغراد سنة 1961، أصبح الأدباء الألبان في كوسوفو أكثر انفتاحاً على العالم من نظرائهم في ألبانيا المجاورة، وأكثر تفاعلاً مع حركات التحرُّر التي برزت آنذاك، خصوصاً في الجزائر وفلسطين، والتي حظيت بدعم سياسي كبير من يوغسلافيا التيتوية.
في هذه البيئة السياسية - الثقافية الجديدة لم يكن من المستغرب أن يكون لدينا في الأدب الكوسوفي "شعر جزائري" أوّلاً، ثم "شعر فلسطيني"، أو قصائد كثيرة عن الجزائر وفلسطين باللغة الألبانية؛ فقد كانت حرب التحرير الجزائرية تحظى بتغطية كبيرة في الصحافة اليوغسلافية، كما حظيت "منظّمة التحرير الفلسطينية" بدعم يوغسلافي؛ إذ افتُتح أوّل مكتب لها في بلغراد واستمرّت القضية الفلسطينية تحظى باهتمام متواصل في الصحافة مع "أحداث أيلول" في الأردن 1970 والحرب الأهلية في لبنان (1975 - 1990).
كان من الطبيعي في هذه البيئة السياسية - الثقافية أن تشدّ الجزائر وفلسطين الشعراء الشباب، الذين يبدأون عادة إبداعاتهم بالقضايا الكبرى التي تشغل المحيط وتؤمّن لهم النشر، كما كانت تجذب شعراء معروفين أو مخضرمين رأوا في الجزائر وفلسطين رمزاً يستلهمونه للتعبير عن التجربة الخاصة للشعب الألباني في كفاحه لأجل الحرية.
وبالإضافة إلى ما هو معروف ومترجم إلى العربية من "شعر جزائري" و"شعر فلسطيني" في الألبانية (انظر: "فلسطين الألبانية"، دمشق 1979)، صدرت منذ أسابيع في بريشتينا مجموعة شعرية للأكاديمي فتحي مهديو بعنوان "في بحر الهموم" (دار لينا، بريشتينا 2019) تتضمّن مختارات من أشعاره التي تعود إلى المرحلة الأولى (1962 - 1978).
وفي الحقيقة، ليس صاحب الديوان بغريب عن الجزائر وفلسطين لأنه تخرّج من قسم الاستشراق في بلغراد وكان من مؤسّسي قسم الاستشراق في جامعة بريشتينا سنة 1973، والاستشراق الألباني بشكل أعمّ. وفي هذا السياق، فقد قضى سنة دراسية في القاهرة خلال سبعينيات القرن الماضي، حين كانت القاهرة قريبة من فلسطين، وشارك في ندوات ومؤتمرات علمية في مصر والأردن وقطر وغيرها.
كانت هذه المجموعة الشعرية مفاجئة لأكثر من سبب؛ فقد عُرف مهديو (1944) بنتاجه الأكاديمي الغزير وترجماته الكثيرة من العربية إلى الألبانية، وعلى رأسها أوّل ترجمة للقرآن إلى الألبانية صدرت في 1986. ولكن هذا الجانب الإبداعي كان يخفيه إلى أن تقاعد وقرّر أن ينشره في مجموعتين، أي أنَّ ما لدينا هنا هي مرحلة الشباب التي تمتد خلال 1962 - 1978، وبالتحديد من دراسته في المدرسة الثانوية إلى انتقاله للتدريس في قسم الاستشراق.
ومن ناحية أخرى، يبدو مهديو جامعاً بين ثقافته الأدبية الألبانية والثقافة الشعرية العربية التي درسها وترجم لكبار شعرائها من امرئ القيس إلى نزار قباني، ومتأثّراً بشكل خاص بالشاعر الألباني المعروف ميجيني (1911 - 1933).
وفي ما يتعلّق بالقصائد، نجد أنها متنوّعة تجمع ما بين الوجداني والعاطفي الذي يُعبّر عن حُبّ الشباب وبين التأمُّلي والتفاعلي مع قضايا الوطن والتحرُّر في العالم، وهي تتراوح بين القصائد القصيرة المكثّفة التي تحمل رسائل واضحة إلى القصائد الطويلة المتسلسلة التي تنطلق من هموم الذات إلى هموم المجتمع في المرحلة الانتقالية السريعة، التي تترك بصمتها بسرعة، وصولاً إلى هموم العالم.
ولكن قبل هذا وذاك، تحمل هذه المجموعة الشعرية بصمة عصرها بالنسبة إلى الشعر الكوسوفي المعاصر، إذ إنها تبتدئ بقصيدة عن الجزائر (ص 9) وتنتهي بقصيدة عن فلسطين (ص 90)!