الثقافي

مسلسل «أنت» على نتفليكس… «الجريمة والعقاب» في أحداث معاصرة

 

تكثر المسلسلات على شبكة نتفليكس، وهذا يصعب مسألة الاختيار، البحث في غوغل والمراجعات الصحافية تلعب دوراً، الاستشارات كذلك. لكن الحظ يلعب الدور الأكبر. ضمن تقاطعات هذه العوامل شاهدت مسلسل «أنت»، أو أقول إني أكملت المشاهدة بعد مرور نصف الساعة الأول، وهي من بين الأهم في المسلسلات والأفلام.

كان لإكمالي المشاهدة سببان رئيسيان، وهما كذلك شخصيان: الأول أن الشخصية الرئيسية، جو، يدير مكتبة لبيع الكتب القديمة والمستعملة، والثاني هو ما بدا في نصف الحلقة الأولى، الأول، أسلوباً للسرد، أي أسلوب تيار الوعي، كأن نسمع ما يدور في ذهن جو، بشكل لا يقل (كماً) عما نسمعه مما يحكيه. وكان ذلك أسلوباً للسرد ممتداً على طول المسلسل. عاملان أضافا أجواء وجدتها جاذبة لحكاية ليست استثنائية، هي هوس جو بنساء يقيم معهن علاقة ويقتلهن.

طبعاً ليس عمل جو في مكتبة، وبالتالي معرفته الجيدة في الأدب، صدفة، هي مبرر للإحالات لرواية الروسي فيودور دوستويفسكي «الجريمة والعقاب» الممتدة على طول المسلسل، وتحديداً في حلقته الأخيرة، حيث الإحالات مباشرة نسمعها بصوت جو، لكن الأهم من الإحالات المباشرة كانت شخصية جو ودوافع القتل لديه، وكذلك نفسيته التي نتلقاها من خلال أفكاره التي نسمعها ضمن «تيار الوعي»، إضافة إلى كلامه وسلوكه.

ليس جو راسكولنيكوف (بطل رواية دوستويفسكي) لكنه نسخة حديثة عنه، نسخة لها ظروفها الخاصة، سياقها الخاص، زمنها الخاص الذي تعتمد شخصياته بشكل كبير على السوشيال ميديا والأجهزة الذكية، وهذه أحد مواضيع المسلسل، فجو المجرم المضطرب نفسياً، يلاحق ضحاياه من خلال الاستيلاء على أجهزتهم، هواتف ولاب توب، ومن خلال متابعة هوسية لصفحاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي.

الحكاية باختصار، كالتالي: تدخل فتاة إلى مكتبة جو، يُعجب بها، تنشأ علاقة بينهما، يراقبها ويلاحقها، بدون مبررات بينة لذلك، يقتل عشيقها، يقتل رفيقتها، يقتل آخرين حولها، نعرف أن صديقته السابقة قد اختفت فجأة وأشاع هو أنها سافرت إلى إيطاليا. تبدأ صديقته الحالية بربط بعض الحقائق والملاحظات ببعضها، لتكتشف أنه قاتل. هذا كان في الموسم الأول (2018) الذي جرت أحداثه في نيويورك، والذي ينتهي بصديقته الأولى وقد ظهرت مجدداً. في الموسم الثاني الذي بُث في ديسمبر/كانون الأول 2019 (الموسم الثالث أُعلن عنه ليكون في 2021)، نرى جو يبدأ حياة جديدة هارباً من صديقته الأولى التي تلاحقه لزجه في السجن، في لوس أنجلس، هناك يتعرف على ثالثة، ينجذب إليها كغيرها، يصادق أخاها، يتقرب من العائلة، ويقتل آخرين حولها وحوله. تنتهي الحلقة الأخيرة بقتلى عديدين، بتقاطعات وتوترات في الحلقتين الأخيرتين كانت موفقة.

الدوافع للقتل لدى جو هي، كما تبدو، خيرة، فهو يقتل الأشرار في المسلسل، أو هم ليسوا أشرارا، فالتناقضات بين شخصيات المسلسل ليست بهذا التناحر أو العمق، هي شخصيات بالمعنى اليومي، أي لئيمة أو منفرة أو غيورة، وحسب.

الدوافع للقتل لدى جو هي، كما تبدو، خيرة، فهو يقتل الأشرار في المسلسل، أو هم ليسوا أشرارا، فالتناقضات بين شخصيات المسلسل ليست بهذا التناحر أو العمق، هي شخصيات بالمعنى اليومي، أي لئيمة أو منفرة أو غيورة، وحسب. لسنا هنا أمام تناحر أو تناقض يستدعي القتل، وليست هذه الشخصيات «مستأهلة للقتل»، لكن، على مستوى الحياة اليومية، كانت لدى جو جديرة بأن يقتلها، وهو ليس قتلاً سريعاً، بل يسبقه غالباً حبس في مكان لا يدخله غيره، وهذا الحبس يشكل تلاعباً بعواطف المحبوس. فأسلوب الكلام عند جو لطيف، هو يسعى إلى تأمين طلبات المحبوس، يعتني به ولا يبدو أنه يتقصد قتله، ولذلك بعض القتل لا يبدو عن سبق إصرار، لكنه يبدو قتلاً عرضاً، غير متوقع أو غير ما رغب فيه جو، وكذلك الحبس الذي يبدو جو مضطراً عليه.

كل ذلك يصب في الحالة النفسية لجو، كشخصية دويستوفسكية، كمهووس بمن يحب حد القتل، قتل من حولهم أولاً وقتلهن ثانياً، لكن القتل هنا يأتي بدافع الحب، الرغبة في الحماية، وكذلك الغيرة كشعور آت من منطقة ما مشتركة مع الحب. هو لذلك شخصية دويستوفسكية نراها بوضوح في «الجريمة والعقاب».

في الرواية هذه ندخل عميقاً في شخصية راسكولنيكوف، نفهم جيداً لمَ قتل، وكان الدافع حميداً، بأن القتل سلوك لخير الآخرين، هو قتل امرأة (في الرواية) مكروهة، تدين الناس برهنٍ وتأخذ منهم فائدة كبيرة. لا نبتعد كثيراً عن ذلك في «أنت» (YOU، وهو لغريغ بيرلانتي وساره غامبل) حيث ندخل كذلك إلى عوالم جو الداخلية، حواراته مع نفسه، استدراكاته في أحاديثه، فنسمعه مرتين: حين يفكر وحين يتكلم، وفي المرتين نفهم شخصيته أكثر، نفهم سلوكه أكثر، بدون أن نبرر له عمليات التعذيب النفسي والقتل التي يمارسها. لا يريد المسلسل من مشاهده أن يتعاطف مع جو في أسباب قتله لآخرين، بل يريد – وهذا ما وصلني كمشاهد فرد – أن ندرك وجهة نظره في ثنائية الخير والشر، وأن ندرك عالمه النفسي، الذي يقوده لارتكاباته تلك، فكما أن هنالك صوتين لجو، الداخلي والخارجي، الكامن والمسموع، فإن هنالك شخصيتين تتكاملان لتشكلا القاتل الخير، أي الشخصية الدوستويفسكية. ينتهي المسلسل بعبارة لدوستويفسكي، من الرواية ذاتها، تقول: «إن كان لدى الإنسان ضمير، فسيعاني من جراء الخطأ الذي ارتكبه، ستكون تلك عقوبته وسجنه». وكذلك كان جو الذي لم نره يُعاقَب، بل يفلت بسلاسة بكل أفعاله، والذي يندم ثم يكرر فعلته، جو بانفصام داخلي لنفسه، انفصام نسمعه من أفكاره وفمه.

من نفس القسم الثقافي