الثقافي

ناشرون يحكون عن نشّالي الكتب: قصص العفو عند المقدرة

قيل في الأثر "إذا كان اللص ظريفاً سقط عنه الحد"

يحكي الناشر بسام كردي مدير الدار المغربية، "المركز الثقافي للكتاب"، أنه نشر ثلاثة أجزاء من رباعية محمد عابد الجابري "نقد العقل العربي". وفي أحد المعارض وقف شخص يرتدي معطفاً طويلاً يستعرض الكتب، ثم بدأ يتناول الأجزاء الثلاثة على فترات، ويسقطها في بطانة المعطف التي لاحظ كردي فيما بعد أنها مفتوحة من الأعلى، لتتسع للكتب يسقطها اللص لتستقر أسفل المعطف.

يقول كردي "كأنني في الزحمة رأيته ولم أره" وبين شك ويقين، لم يكن من السهولة أن تلقي القبض على شخص، وتحاكمه على السرقة. خرج الرجل وقرّر الناشر أن يتبعه، ليجد أنه متجه إلى جناح "مركز دراسات الوحدة العربية"، الذي طبع الجزء الرابع من "نقد العقل العربي" فسرقه، لتكتمل الرباعية جميعها أسفل المعطف.

لدى الناشرين في معرض الدوحة للكتاب الذي اختتمت فعالياته أمس، حكايات كثيرة من المعارض العربية التي يشاركون فيها من الخليج إلى المحيط. جميعهم لم ينظروا إلى نشّال الكتب بوصفه مرتكب جناية واجبة العقوبة. لا لأن صاحب الشيء يرحب بسارقيه، بل لأن الصورة الغالبة لهم خليط من التعاطف، والتفهّم، وفسحة من التغاضي عن فعل يرتبط بالحاجة، ومعها العوز.

وبالمجمل، يعتمد صاحب الكتب على تقديراته للشخص إن كان ناشلاً أم نشّالاً، سارقاً أم سرّاقاً. يخبرنا كردي بأن سرقة نسختين أو أكثر من كتاب، تضيّق إمكانية التغاضي عنها. إنه هنا لا يسرق لقمة تقيم أوده.

رنا إدريس، مديرة "دار الآداب"، تقول من جهتها: "إذا كان هدف السارق قراءة الكتاب فهو هدف مشروع نوعاً ما"، ثم تستدرك: "من يعرف في النهاية حقيقة السارق إن كان قارئاً أم لا؟" لتبقى هذه المساحة مفتوحة على الإدانة العرفية غالباً دون الجرجرة إلى سلطة القانون والشرطة، والتغاضي والتماس العذر، والعفو عند المقدرة.

قيل في الأثر: "إذا كان اللص ظريفاً سقط عنه الحد". وكان أحد الأصدقاء الكتّاب في عمّان يُطلعنا على كتب بين يديه، ويقول هذا الكتاب "اقتبسته" أمس، محوّلا فعل السرقة إلى مجرد اقتباس مشروع.

غالبية الناس لا "يقتبسون" حالَ صديقنا، وإنما يدفعون مقابل هذه السلعة الكتاب. يفاوضون على سعر أقل، أو يدفعون دون جدال، تقديراً وحُباً. وهم مع غيرهم قد يتبنون أفكاراً حول المشاع المعرفي. لم لا تكون الكتب للجميع؟ ويحاجج فريق آخر بأن للكاتب والطابع والناشر والموزّع حقاً يجب أن يؤدى لهم، نظير هذا الجهد الذي بذلوه.

ويقارن بسام شبارو مدير "الدار العربية للعلوم" بين سارق نسخة من كتاب، وبين سارق حقوق الملكية الذي يطبع ويبيع آلاف النسخ، دون وجه حق. وعليه، يواصل كل هؤلاء عملهم، باعتبار أن العالم ما زال يريد الحصول على الكتب، وهناك قلة قليلة تسرق، دون عنف، وإراقة دماء.

لا يحدث أن يستأجر صنّاع الكتاب رجال أمن لتحصين الروايات، والقصص القصيرة، والشعر، وكتب المفكرين والعلماء. لهذا يستخدم سارقو الكتب الحيلة فقط. فإذا اكتشفوا أصيبوا بالحرج أمام ناشرين ذوي عضلات متواضعة، بسبب الجلوس المزمن على الكراسي، لن يوسعوهم ضرباً، ولن يستنجدوا بموظفي الأمن، أو بالجماهير. ولن يزعجوا الأسقف الذي يتوافر دائماً في كل المعارض، وداخل صفحات رواية "البؤساء".

كان الأسقف يؤوي المتشرّد خرّيج الحبوس جان فالجان، لكنه في الليل سرق الصحاف وملاعق الفضة وهرب، وفي الصباح اشتبه به رجال الشرطة وساقوه إلى الأسقف الزاهد، الذي قال للص: أهذا أنت يا صديقي! لماذا نسيت أن تأخذ الشمعدانين مع الصحاف؟ لقد تركتهما لك.

من أجواء باريس أوائل القرن التاسع عشر إلى عام 2004 إلى باريس الحاضرة في رواية "الحي اللاتيني" التي كتبها سهيل إدريس 1953، وهذه المرة مع لص آخر في أحد المعارض العربية.

تحكي رنا إدريس مديرة "دار الآداب"، أنها كانت برفقة والدها سهيل إدريس (1925-2008) الذي أسس الدار في خمسينيات القرن الماضي. بسرعة اختطف السارق "الحي اللاتيني" ودسّها في جاكيته، بيد أن عين إدريس كانت أسرع، فناداه وقال له: "أنت أخذت روايتي، وهي لك، لكن أخرجها من الجاكيت لو سمحت، حتى أوقّع على نسختك".

الناشر خالد الناصري يتحدّث عن سارق كتب يدافع عن السرقة بوصفها سلوكاً روبنهودياً، وفي الوقت نفسه هو صديق لدار المتوسط التي يديرها الناصري. ولتوفير العناء، قررّ الناشر أن هذا الشخص كلما التقاه في المعرض، سيهديه مجموعة من الإصدارات الجديدة. لكن الطريف أن هذا الشخص أبدى غضبه ذات مرة، قائلاً "لماذا تهديني الكتب؟ اتركها على الرفوف، وأنا أسرقها".

الأستاذ الجامعي الجزائري إبراهيم صحراوي مدير "دار التنوير" الجزائرية، لاحظ شاباً في معرض الدوحة يطيل التأمل في كتاب، لكنه طلب سعراً أقل، فمنحه خصماً 50%، لكن الشاب طلب مزيداً من الخصم، ثم مضى على أمل العودة، ولم يعد. صحراوي قال إنه يشعر بالندم، داعياً الشاب -إن قرأ هذه السطور - إلى المجيء لجناح الدار، وسيعطيه الكتاب هدية.

أما فضل مهدي مدير "دار صادر"، فآثر أن يأخذنا إلى حكاية أخرى يسردها بتأثر، عن شاب في بداية العشرينيات من عمره، تعرّف إليه قبل أكثر من ربع قرن في أحد المعارض. يومها استأذن الشاب بأن يتصفح كتاباً، لكنه جلس على كرسي في زاوية، وطال التصفح، حتى بات استغراقاً. يجلس من صباح الرحمن إلى أول المساء، وهو يطالع في كتاب كبير الحجم، ولا ينقطع إلا في فترة الغداء. استمر ذلك أياماً، فسأل مدير الدار: "أنت أصبحت مألوفاً لي طوال هذه الأيام. ما قصتك مع هذا الكتاب؟ لماذا لم تشتره؟". قال الشاب "لو أملك ثمنه لما فعلت هذا". فرد مهدي مدير الدار "هل تقبله هدية مني؟". ويختم بأن هذا الشاب أصبح في الخمسينيات الآن، وهو من كبار الصحافيين، وما تزال تربطه به صداقة.

يعترف الناشر خالد الناصري، بأنه سرق كتباً في صغره. ولدى دخوله عالم النشر أدرك المعاناة التي يتكلفها صانع الكتاب، حتى يتحوّل إلى سلعة بين غلافين. يصف المسألة بأنها مركّبة، لا يمكن اختزالها، حتى ونحن نقول إن السرقة فعل مدان. لا يمكننا وضع نقطة على السطر، وفق قوله.

يروي الناشرون، كما العديد ممن شهدوا واقعة ذات يوم في معرض عربي، حين ركض ناشر، وهو يصيح خلف سارق، مثيراً جلبة في المكان. يتندّر الجميع بمن فيهم الناشرون، على هذه الغضبة التي تضرب الجانب الظريف من الحكاية.

وتروى دائماً حكاية دار نشر فرنسية ذات ميول يسارية، اضطرت للإقفال بسبب انفتاحها الواسع على سرقات الكتب، وصعاليكها غالباً من طلاب الجامعات.

لو أن أخانا الناشر الفرنسي استلهم مقولة معاوية بن أبي سفيان "الحكمة ثلثها فطنة وثلثاها تغافُل"، لما عرّض داره للاستباحة والخسائر، لكنه آثر أن يغلق الباب، ويضع نقطة على سطره الأخير. أما لدينا في الوطن العربي، فالباب الموارب ما يزال يوفر سردية إنسانية ذات مسحة كوميدية، فلا يموت الذئب ولا تفنى الغنم.

 

من نفس القسم الثقافي