الثقافي
الترجمة خارج اهتمامات مجتمعاتنا العربية
لا فكاك لها من الأدب فهي شديدة الارتباط به
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 22 ديسمبر 2019
يُحرِّك هاجسُ الاكتشافِ العلماءَ والأدباء وحتى البُسطاء من الناس، لتَمكُّن الفضول من الإنسان، الذي يرغب في الاطلاع على المختلف والجديد وعلى ذاته من خلال التعرُّف على الآخَر في مَعيشه وثقافته، ومن خلال التعرُّف على الصورة التي يبنيها ذلك الآخَر عن المختلفين عنه.
وجليّ أن الكتابة، خاصة الأدبية منها، هي خير وسيلة وأيسرها للتعرُّف على الآخر، وفق ما أكدت الروائية فيرجينيا وولف، التي ذهبت إلى أنَّ كُتَّاباً مثل تولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف "لم تتسنَّ في السنوات الأخيرة سوى لواحد أو ربما اثنيْن من الإنكليز قراءتُهم بالروسية، وأنّ تقديرنا لقيمتهم شكَّلناها عنهم بوساطة نُقّاد لم يقرؤوا كلمة بالروسية أبدا، ولم يروا روسيا أبدا، وأبدا لم يسمعوا تلك اللغة تُتحَدَّث من قِبل سكانها الأصليين أيضاً؛ وأنه كان علينا أن نرتهن، في عمى وضِمنيا، إلى عمل المترجمين".
هكذا نتأكد أن لا فكاك للترجمة من الأدب، فهي شديدة الارتباط به، ويؤكِّد ذلك ما يذهب إليه بورخيس في قصته الشهيرة "التَّرجمات الهوميريَّة" بقوله إنّ "لا مشكلة شديدةَ الاتحاد جوهريًّا بالآداب وبلغزها المتواضع كتلك التي تَعْرضها الترجمة".
والغريب في الأمر أنَّ القيمة والاعتبار اللذين تحظى بهما الترجمة لا خلاف حولهما، وأن لا خلاف أيضا حول أن الأخيرة هامشية، عِلما بأنّ ما تُنتِجُه هو كتابةٌ لاحقةٌ تتميّزُ بكونها هامشا لأصل اعتمدته.
والواقع أن الترجمة مجال لتجلّي الهامش بامتياز، فزيادةً على أنها لا تحظى في معظم مجتمعاتنا العربية إلا بالقليل من الاهتمام السياسي وبضَعف الرعاية المادية، وصُدورِها مُوَقَّعة من قِبَل المترجِم بعد توقيع المؤلِّف، وإظهارِها أنَّ المترجِم يكونُ منتَجُه بالضرورة حاشية على أصله وامتدادا له في ثقافة أخرى، تُؤكّد الترجمةُ على موقعها الهامشي بمختلف أشكال إخراجها؛ مِن مقدمة المترجِم وكلمة الغلاف والهوامش والإضاءات والطُّرَر والتنويرات، وغيرها.
ولا تنسى الترجمة أن "جوهر(ها) هو أن تكون انفتاحا، وحوارا، وتهجينا، وتفكيكا للمركزية"، وفق بول رِيكور، وعلى الرغم من ذلك، فهي لا تغفل عن أنّ طموحَها دوما هو الانتقال إلى المركز، لاقتناع مُزاوليها بقيمة المهمة المنوطة بهم، وبما يُدخلونه في مجتمعهم من جِدَّةٍ مُمثَّلة في أفكار ومعارف وقيم ورؤى وتجارب وسواها. لكن كيف يتأتى للترجمة إنجاز هذا العمل الكبير؟
بدْءًا لا بد من التعرّف على الموقع الذي تُقيم فيه الترجمة، والذي لا ينبغي أن يكون سوى الوسط، لأنها نشاطٌ مُنتِج يقع على الحدود، فهي تُراقب ما يُمكِن نعتُه "بالخارجي" المُمثَّل في ثقافة الآخر ومُنتَجه النَّصّي، في مقابل "الداخلي" المجسَّد في الثقافة المُستقبلة وتقاليدها في الكتابة وقِيَمِها.
ويبدو أن العمل الذي تقوم به الترجمة هو بعينه ما وَسمَه جيلْ دُولوز بالتنسيق Agencement، الذي معناه، حسب تعريفه الفلسفي، "أنْ نكون في الوسط، فوق خط التقاء بين عالم داخلي وعالم خارجي"، حيث يتحرَّك المترجم في مجال العلامات، وتكون مهمتُه إنجاز الاكتشافات باستمرار لتلقيح ثقافته المُضيفة، والقيام بالتوليف وبإنجاز التركيب، مُعيدةً كتابةَ ما سبقتْ كتابتُه، ومانحةً إياهُ الدّيمومة.
تُتيح الترجمة لِلمُفيدين منها نصوصا وبرامجَ وأفلاما تحظرُها السُّلطة على القُرّاء في مجتمع الرِّقابة، فتفتح عيونَهم على الحياة في مجتمعات لا تُمتَهن فيها كرامة المواطنين، وعلى تجارب في العيش مختلفة عنهم، عبر قراءة تجري في الداخل، أي في عالَم الألفة، فيتوسَّع الأفق المعرفي لقُرَّائها، لأنها توقِفُهم على شؤون تتصل بحياتهم.
قَدَر الترجمة، حسب الفيلسوف الفرنسي پُول ريكور، "إمّا أن تكون في ارتباط، وإما أن لا تكون شيئا"، وهذا الارتباط لن يكون إلا بمجتمعها، فمن موقع "المغادرة الموطنية" تُيسِّر لمُجتمعها إنْ كان مُنعَّما في الديموقراطية الإفادةَ من تجارب معيَّنة، لدى شعوب العالَم المتأخِّر، وتُنبِّه مجتمَعها إن كان منتميًا إلى العالمِ المتأخّر - حيث الاستبداد والتخلفُ - الانتباهَ إلى مكاسب الديموقراطية، وما يرتبط بها من حرية وعدالة ومساواة وكرامة.