الثقافي

حتمية الكتابة الاستعجالية في الجزائر

ينطلق الحدث من الأرض، تصنعه الجماهير في غضبها وحزنها وسعادتها أيضاً، يختمر ويصنع قطيعة مع الماضي

كثير من الكتب التي توثق للحراك الشعبي في الجزائر، الذي انطلق في فيفري الفائت، صدرت في الآونة الأخيرة. كتب تخب مُسرعة في القبض على اللحظة الراهنة، وتدون حدثاً لم ينته، تلتقط هتافات الجماهير وصخب حناجرهم في الساحات العامة وتُرافق شعاراتهم وأحلامهم، منها ما جاء بصيغة كرونولوجية، في استعادة للأحداث بشكل آلي كما جرت، بدون تعليق أو نقد، كما لو أنها استطلاعات أو مقالات مطولة، وقليل منها تضمن قراءات لمسار الأحداث مع ترو في تحليل ما يجري على الواقع، وبمجرد صدور هذه الكتب، نصب البعض أنفسهم مُحامين عن الحقيقة، ووصفوا تلك النصوص بالاستعجالية، وأنها لا تُفيد القارئ ولا الباحث، وتفشت «التهمة» فعلاً، ومرّ جل تلك الكتب في صمت، خرج كثير منها من المطابع في كفن، هكذا جرى الاتفاق في صمت على تكرار عثرات الماضي، فأغلب الأحداث الكبرى التي وقعت في الجزائر مرت بدون أن يهتم أحد بتوثيقها.

 

كلما وردت قضية درايفوس، نقيب الجيش الفرنسي، الذي أتهم بالخيانة عام 1894، وهزت حكايته أركان البلد، يرد في أذهاننا الروائي إيميل زولا، ونصه الشهير «أنا أتهم»، لقد قام كاتب محل المؤرخين، لا يزال المقال الذي كتبه حينذاك مرجعية نعود إليها في كل مرة، قصد البحث والتفحص في تلك القضية.

ولم يكتف الكاتب بدوره في ردة فعل، فكثير من القضايا التاريخية تتسرب إلى الرواية، بحكم أن هذا الفن أمسى قادراً على استيعابها، وإن لم يقدم حلاً لها فهو ـ على الأقل ـ يؤرخ لها، وفي هذا السياق تحضر رواية «الوظيفة السابعة للغة» (2015) للوران بينيه، الذي حاول فيها الإحاطة بظروف موت رولان بارت، فالأدب لا يقوم بإعادة تأويل التاريخ، إنما التاريخ من يمكنه أن يتسرب إلى النص الأدبي، بدون أن يضيع منه عنصر واحد من عناصره، هكذا شيئاً فشيئاً بات يحق للكتاب أن يملأوا الثغرات، التي تهاون فيها مؤرخون، ويجدر أن نعود في هذه النقطة إلى رواية «جنود سالامينا» (2001)، للإسباني خافيير سيركاس، التي تتحرى التاريخ المعاصر في بلده، الذي لا يزال مسكوناً بتداعيات الحرب الأهلية.

في هذا التلاحم بين التاريخ والأدب يطرح سؤال الثقة والالتزام بالحدث، بدون تحريف، مع ما يسمح به السياق من تخيل وإضافة أو حذف هوامش، وبسط قصص موازية، بدون المساس بالأصل، تستجيب لتداعيات الحدث الأساسي، الذي بنيت عليه. في سياق متصل، نلاحظ إقبال القارئ على كتاب أدبي يستثمر في حدث تاريخي، أكثر من الكتب التاريخية الصرفة، من أطروحات ومقاربات نظرية، التي تحولت إلى كتب نخبوية مع الوقت، لاسيما في المحيط العربي.

ينطلق الحدث من الأرض، تصنعه الجماهير في غضبها وحزنها وسعادتها أيضاً، يختمر ويصنع قطيعة مع الماضي، وتأتي، بعد ذلك الكتابة كي توثق وترتب ما جرى، كي يستمر نهر الحدث، ولا يطوى بمجرد عودة الجماهير إلى بيوتها

ينطلق الحدث من الأرض، تصنعه الجماهير في غضبها وحزنها وسعادتها أيضاً، يختمر ويصنع قطيعة مع الماضي، وتأتي، بعد ذلك الكتابة كي توثق وترتب ما جرى، كي يستمر نهر الحدث، ولا يطوى بمجرد عودة الجماهير إلى بيوتها، من هنا فإن الأدب يصير قادراً على إطالة حبل التاريخ، وتخصيب الوقائع حتى تبلغ أشدها.

مع بدء العمليات الإرهابية، في الجزائر مطلع التسعينيات من القرن الماضي، توقف رشيد ميموني (1945- 1995) عن الرواية، وأصدر كتاب «عن البربرية عموماً، وعن الأصولية خصوصاً» (1992)، في كتابة أراد منها الرد على دعاة الدم، وفضح تكالبهم في استهداف الأبرياء والعزل، ونزعتهم الوحشية في تعميم الموت، ثم أصدر رواية في الموضوع ذاته بعنوان «اللعنة» (1993)، لم تخرج عن ميله في الرد عما يحصل أمام عينيه من تحولات، قبل أن يعتزل الكتابة، وينصرف في الرد على الأصوليين، من قناة البحر الأبيض المتوسط في طنجة، كذا فعل طاهر جاعوط (1954- 1993)، الذي وصلته أيد الأصولية، قبل أن يتم روايته الأخيرة «صيف العقل الأخير»، التي صدرت بعد استشهاده بست سنوات، وهكذا فعل كتاب آخرون قليلون، لكن سرعان ما صادفهم من ينعت كتاباتهم بالأدب الاستعجالي، غير مبالين بحتميتها في السياق المشتعل الذي كتبوا فيه، مع أن الذين أطلقوا مصطلح الأدب الاستعجالي هم «كتاب لم تكن لهم مواقف من العمليات الإرهابية»، بتعبير الروائي محمد ساري، وبعض منهم تقاربوا مع الإسلاميين، حين ظنوا أن أولئك بصدد الإمساك بزمام السلطة.

يصرف الكاتب جهداً في القبض على الحدث الجلل، الذي يدور أمامه، في الجزائر، ينعزل ويفارق مشاغله اليومية وواجباته، كي لا يضيع الحدث في مزلق النسيان، ويوفر للأجيال وثيقة حية، أكثر نضجاً من عشرات المحاضرات، التي قد يطرحها مؤرخون، وفي الختام يقف كاتب آخر، على رصيف مقابل، كي يقلل من جهده، وقد تحول مصطلح «الكتابة الاستعجالية» إلى ما يُشبه ضيم، للإنقاص من قيمة كل كاتب اصطف خلف شعبه.

الحرب ضد الإرهاب تجند لها كتاب، قبل السياسيين، وسارعوا إلى توثيق اللحظة وهدم عقيدة الأصوليين، رغم ما لاقوه لاحقاً من نقد غير عادل، ولولا أولئك الكاتبان اللذان سبق ذكرهما وآخرون ما كان بوسعنا أن نعثر على وثيقة ناضجة عن حرب لا اسم لها، عاشتها الجزائر قبل ربع قرن ونيف، وهذا ما يتكرر الآن، فبمجرد أن شرع كتاب في تدوين شهاداتهم وقراءاتهم للحراك الشعبي ـ مع أنها لا تضر السلطة في بلد لا يقرأ سوى قليل ـ حتى وجدوا من يقف لهم بالمرصاد وينعت كتاباتهم بالأدب الاستعجالي، هل يودون من الكاتب أن يصمت؟ الغريب أن هذا النقد يأتي من كتاب آخرين مثلهم، كان من المفترض أن يقوموا بالشيء نفسه، دفاعا عن التاريخ وعن الذاكرة.

من نفس القسم الثقافي