الثقافي

"بابيشا" في المغرب بعد منعه في الجزائر

لم يصدر قرار رسمي بالمنع

شرعت الصالات السينمائية المغربية منذ أيام في عرض الفيلم الجزائري "بابيشا" للمخرجة مونية مدور بعد منع عرضه في بلده الأم الجزائر لأسباب غير واضحة. وتم تقديم العرض ما قبل الأول للفيلم في سينما "أطلس" بالعاصمة المغربية الرباط بحضور فنانين وإعلاميين، ويحكي الفيلم قصة طالبة جزائرية تحلم بأن تصبح مصممة أزياء، وتتعرض للضغط من قبل متشددين، وتتصاعد الأحداث لتشكل خطراً على سلامتها وحياتها. 

والفيلم ممنوع في الجزائر لأسباب غير واضحة، إذ ألغي عرضه الأول بعدما كان مبرمجاً في 21 سبتمبر الماضي، ثم أُعلن عن تأجيل العرض من دون أسباب واضحة، وكان المنتج بلقاسم حجاج قد قال، في تصريحات صحفية حينها، إن الفيلم يتعرض لرقابة وحظر، وهو ما أيدته المخرجة، حيث تحدثت عبر مواقع التواصل وللإعلام عن منع بتعليمات من السلطات.

في المقابل، لم تصدر السلطات أية توضيحات رسمية حول سبب منع الفيلم، سواء من جانب وزارة الثقافة أو من جانب المركز الجزائري لتطوير السينما المشرف على القطاع، ورغم العراقيل، يواصل الفيلم فرض نفسه من خلال اختياره من قبل لجنة الأوسكار ليدخل سباق الأفلام المرشحة لأفضل الأعمال السينمائية.

"بابيشا" تعبير جزائري، يُستَخدَم لوصف الشابات المغنّجات والمزيّنات والمتمرّدات والمتحرّرات. كما يبدو، هو حديث نسبياً، إذْ لم يُستَخدَم في تسعينيات القرن الـ 20، بحسب جزائريين. من خلال نظرةٍ شابّةٍ، يرسم الفيلم لوحة لشابات طالبات في سكن جامعي، في فترة "العشرية السوداء" في جزائر التسعينيات الفائتة. النظرة عاطفية ومتحدّية، توجّهها نجمة (لينا خضري، التي مثّلت في "السعداء" لصوفيا جمّة، 2017)، الفتاة المتمرّدة، التي تحبّ الحياة ومباهجها، وتعشق تصميم الأزياء، وتعمل على تنظيم عرض لتصميماتها في سكن الطالبات، رغم الأجواء الرهيبة في البلد. تبيع ما تخيّطه يداها الماهرتان في حفلات ساهرة مع أصدقاء وصديقات، تهرب إليها مع صديقتها (شيرين بو تيلّة) بعد رشوة حارس مباني السكن الجامعي.

إنها نمرة بكلّ ما فيها من اندفاع وتحدّ للتحوّلات الطارئة على عقول وسلوك. لا تعبأ بالإرهاب والتخويف، ولا تتردّد في نزع ملصقات في الجامعة والشارع، تحثّ المرأة على الحشمة وتغطية الرأس والجسد، بل يزيدها هذا تصميماً على المضي في تحقيق حلمها، الذي يغدو بعيداً أكثر فأكثر، خصوصاً بعد مقتل شقيقتها الصحافية برصاصة فتاة إرهابية، فتخبو حماستها. لكن، بدعم صديقاتها، تعود الرغبة إليها في تنظيم العرض، وينتابها شعورٌ بالتحدّي، يدفعها إلى استخدام "الحايك" الأبيض في تصميماتها، ليغدو هذا اللباس التقليدي الجزائري، الذي كان رمزاً لمقاومة الاستعمار الفرنسي، رمزاً لمقاومة احتلال من نوع آخر.

قدّم "بابيشا" شخصيات نسائية متعدّدة التوجّهات، لضمان التوازن والتعبير عن المكوّنات المختلفة للمجتمع. نجمة وصديقتها منفتحتان تنشدان التحرّر. صديقتهما المقرّبة منتمية إلى الإسلام التقليدي. ترتدي حجاباً عادياً، ولا تشاركهما سهراتهما، وتتوارى شخصيتها أمامهما، لكنها تُصبح حاملاً من رجل غير خطيبها. بالإضافة إلى المتزمّتات المتطرّفات والعنيفات، اللواتي بَدَوْنَ بمظهر كاريكاتوري مفتعل. ربما هنّ هكذا فعلياً، بتعابيرهن وتعبيراتهن، لكن كان يُمكن الاقتراب منهنّ والاهتمام بهنّ أكثر. 

لعلّ هدف الفيلم يكمن في التركيز على الشخصيات الأولى، أي على الفتيات الشاطرات والمتمرّدات، اللواتي يَلقينَ إعجاباً بحماستهن، ويُثرنَ التعاطف أينما وُجدنَ، ولا سيما إن كنّ في مجتمع لا يكفّ عن قمعهنّ، والمطالبة بحبسهنّ وتغطيتهنّ، بعيداً عن نظرات الرجال، التي يُفترض بها أنْ تكون شهوانية دائماً.

بدت الكتابة السينمائية (مدور وفاديت دْرُوَار) كأنّها تفرض فكرة عن "تحرّر" فتاة عربية، تريد تصميم الأزياء وعرضها في الجامعة، غصباً عن الجماعات الإسلامية، فيكون القتل عقاباً لم ينزل بها، بل بغيرها. فكرة شجاعة لفيلم ممتع، يُجابه الإرهابيين وجهاً لوجه، وإن بعبارات سريعة، ومواقف مكررة، ونقاشات سطحية ومتوقّعة. أثناء مشاهدته، يصعب عدم التفكير في أنه مصنوع بعقلية فرنسية، أو أنه يقترب جداً من رؤية فرنسية لفتيات مسلمات، يطمحن إلى التغيير، وهذا ظاهرٌ في كلامهنّ وملابسهنّ ولغتهنّ. ربما ساهم في هذا الشعور أيضاً سيطرة اللغة الفرنسية على الحوار بينهنّ، بينما العربية لغة "الأخوات" المتطرّفات، تعبير عن كل ما يتعلق بالدين، كأنها لغة ليست مهيّأة للتخاطب اليومي بين فتيات متمدّنات، يرفضن القمع الديني والمجتمعي للرجال والنساء معاً.

ربما الوضع هكذا في الجزائر، و"بابيشا" أراد أن يكون واقعياً تماماً. لكنه لم يكن كذلك، بارتداء نجمة الـ"جينز" الممزّق في فترة لم يكن سائداً فيها "جينز" كهذا. وبظهور الوشم على أجساد الشابات، مع أنّ إخفاءَه ممكن بسهولة. هذا أضعف صدقية الفيلم حول تمثيله تلك المرحلة. هناك أيضاً تحوّلات بعض الشخصيات، الحاصلة بغتة، من دون تطوّر درامي مدروس، فقُدِّمت على أنّها بديهيات، كتغيّر شخصية بائع القماش إلى التطرّف. كذلك بعض الأحداث، كالعلاقة العاطفية القوية بين نجمة وصديقها، وبين صديقتها وشاب آخر. علاقتان صارتا حميمتين فجأة، من دون تدرّج.

"بابيشا" مُثقلٌ بحوارات ومواقف متوقّعة. كما أفرطت مونية مدور في استعمال اللقطات المقرّبة، التي أوجدت مناخاً خانقاً، فباتت عائقاً أمام مشهد عام، يضع الشخصيات في سياق مكاني ضروري، للدخول في أجواء الفيلم. كذلك، إنّ المبالغة في الحركة السريعة للكاميرا، لملاحقة تحرّكات لا تهدأ للشخصيات، جعلت بعض المواقف والحوارات سريعة وعابرة وخفيفة الأثر.

لكن "بابيشا" استطاع، بإيقاعه اللاهث والمتوافق مع حيوية بطلاته، أنْ يُعبّر عن رغباتهنّ الجامحة في التحرّر، وتحقيق الذات، وتحدّي الظروف الصعبة، وتوافَر على مَشاهد مؤثّرة بقوّتها، وفرضت جودة أداء ممثلاته الاهتمام بهنّ وبحياة شخصياتهنّ، ولا سيما لينا خضري، ذات الأداء الرائع.

من نفس القسم الثقافي