الثقافي
نيل كاسادي: جيل شعري في سيارة مسروقة
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 30 أكتوبر 2019
لا نبالغ إن قلنا إن الكاتب الأميركي نيل كاسادي (1926 ـ 1968) يجسّد لوحده جيل الـ"بيت" على شكل أيقونة وثنية. فبدونه لما رأى كتاب جاك كيرواك "في مهبّ الطريق" النور، ولما كتب ألان غينسبرغ كتاب "عواء"، ولفقدنا أجزاء مهمة من كتاب ويليام بوروس "وأفراس النهر سُلقوا أحياء في أحواضهم".
وبينما يدين كيرواك وغينسبرغ لكاسادي بكل شيء، عاشره بوروس وبوكاوسكي وكين كيزي وأُعجِبوا به إلى أبعد حد. وجميعهم استشفّوا داخله العطش نفسه إلى الحرية، والطاقة المتدفّقة نفسها التي ستقتله في نهاية المطاف، خلال مساءٍ بارد، قرب سكّة حديد في المكسيك.
وفعلاً، لأسباب غامضة، سيقع كاسادي في الثالث من شباط/ فبراير 1968 في غيبوبة لن يستيقظ منها. الأكيد هو أن المخدرات التي كان يتناولها والبرد والقصور الكلوي لعبوا دوراً في ذلك. لكن ماذا يبقى من هذا البوهيمي الذي لم يكن يتوانى عن سرقة كل ما كان يرغب فيه، وخصوصاً السيارات، وعن إغراء النساء اللواتي كنّ يقعن في حبّه بالعشرات؟ ماذا يبقى من هذا الصوت الشعري الناري الذي عرف كيف يُلهِب نفوس وأقلام عصابة كاملة من أهم شعراء أميركا؟
من جهة الفنانين الذين منحهم نفَسَه، أي نبرة الـ"بيت" القوية والمتقطّعة التي توقّع رسائله ونصوصه، تبقى علامات أدبية مدوية: سيرته الذاتية التي صدرت بعد وفاته بعنوان "فتوّة أولى"، وأيضاً "في مهب الطريق" و"رؤى كودي" لكيرواك، "عواء" لغينسبرغ، "في مهبّ طريقي" لكارولين كاسادي، "اختبار حمّض" لتوم وُولف، كلمات كيزي...باختصار، جزءٌ كبير من الأدب الأميركي الذي ظهر في الثلث الأخير من القرن العشرين، وأيضاً روح هذا الثائر الذي وُلد ونشأ في الشارع قرب والده المتشرّد السكير، ومع ذلك عشق الأدب حتى الثمالة، كما عشق السفر برّاً خلف مقود أي سيارة تقع تحت يده.واليوم لدينا "شيءٌ رائع يتضمّن كل شيء"، كما سمّى كاسادي مشروعه الأدبي الكبير، أي كتاب يتألف من الرسائل التي وجّهها الشاعر إلى المقرّبين منه، وبالتالي تحفة أدبية ومؤثّرة ترسم، رسالة بعد رسالة، بورتريهاً حميمياً له.
طبعاً، نعرف الشياطين التي كانت متسلّطة عليه، ميوله، نقاط ضعفه، النزعة الانتحارية والهلسية التي كانت حاضرة فيه بموازاة عطشه لكل شيء. لكن تحت جلد هذه الشخصية، يظهر لنا تدريجياً وجهٌ آخر؛ وجه شخصٍ مولع بالثقافة، يقرأ بنهمٍ نادر أجمل ما أنتجته البشرية من أدب وفكر. وهذا بالتأكيد ما دفع صديقه كيرواك إلى القول إن كاسادي أمضى ثلث حياته في المكتبات العامة.
وبنشر رسائله حديثاً، تسمح لنا دار Finitude الفرنسية، وقبلها ببضع سنوات دار Penguin البريطانية، بإكمال صورة حركة الـ"بيت" وبإعادة ترتيب وجوهها وفقاً لأهميتهم، أي كاسادي أولاً.. وأخيراً.