الثقافي

أسرى فلسطين.. الحق في الذاكرة

اعتدنا أن يكون ضحايا الحروب والثورات والكوارث الطبيعية أرقاماً، لا أكثر. لا تُذكر أسماؤهم إلا في التقارير الحقوقية، التي يقرأها أشخاص معدودون فقط. قد تبرز بعض الأسماء ليختصر قصص العشرات والمئات أو الآلاف أو حتى الملايين من البشر، في حكاية واحدة أو بضعة صور. هذه القلة المختارة تتحول إلى رموز وأيقونات، وتُنسى بقية الضحايا. لا يذكرها التاريخ، ويرتاح ضمير العالم حين تكون بعيدة ومن دون تاريخ أو ملامح.

يتحدى كتاب "مذكرات الأسرى: أصوات فلسطينية من المعتقلات الإسرائيلية" (الدار العربية للعلوم ناشرون، ومركز الدراسات السياسية والتنموية) هذا الواقع، عبر السعي إلى توثيق حكايات أسرى فلسطينيين ممَن أُطلق سراحهم في اتفاقية تبادل الأسرى في 18 تشرين الأول/ أوكتوبر 2011، التي شهدت إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط مقابل الإفراج عن 1027 أسيراً فلسطينياً في السجون الإسرائيلية.

هي محاولة في الذاكرة، تعرّض شهادات 43 فلسطينياً وفلسطينية، من فكرة وإعداد الصحافي ياسر البنا، وإشراف نورما هاشم ويوسف الجمل.استمع ياسر البنا، وفيحاء شلش، ورشا فرحات، وسماح المزين، وهيثم غراب، ومعاذ العامودي، وحنان مطير، ومحمد المنيراوي، وخالد كريزم، ومها شهوان، إلى شهادات الأسرى، ثم أعادوا صياغتها على ألسنتهم، معتمدين أسلوب أدب المذكرات، في مسعى لبلورة تعامل جديد مع القضايا ذات البعد الإنساني والتحرري، وإعطاء كل فرد عانى أو ضحّى أو تمرّد في سبيل قضية عادلة، حقّاً، ولو كان صغيراً، في الذاكرة البشرية.

 

الأرقام بالنسبة إلى العالم مجرّد أرقام: 1027 أسيراً، و25 سنة هو زمن الحكم المؤبد، و16 عاماً هو الوقت الذي قضاه بعض الأسرى. أما بالنسبة إلى إياد العبيدات، فالأمر مختلف، إذ عاش في سجنه، قبل الإفراج عنه بمقتضى الاتفاقية، كل يوم من أيام مؤبداته الثلاثة ليكتشف أنها ليست مختلفة عن أيامنا العادية فحسب، بل حتى عن أيام الآخرين من المحكومين بالمؤبد.

الرقم 1027 خانَ أرينا سراحنة، إذ وجدت نفسها بين الأسرى الذين سيطلق سراحهم في الصفقة المذكورة، لكن العدد المذكور لم يتضمن زوجها الأسير أيضاً. أما 16 عاماً، فرقم تأثيره مغاير لدى عبد الرحمن شهاب: "ستة عشر عاماً، لم ألامس يد أمي أو أبي، لم أشم رائحتهما، لم أقترب لأحس بأنفاسهما الحانية تلامس وجهي ورقبتي".وطأة الزمن لدى هؤلاء أشدّ وأقوى، ومشاعرهم مختلفة عن حساباتنا الباردة. لقد حُرموا من الحرية، وكل يوم في السجن هو يوم أقل في الحياة الحرة؛ يوم من ألم وشوق ووحدة، ولا يحميهم من الانهيار إلا الصبر والأمل.

نقرأ قصصهم ونحن نحدّق في صورهم، فكل شهادة مرفقة بصورة صاحبها. هم، بالنسبة إلينا الآن، ليسوا مجرد أرقام، بل بشراً بأسماء ووجوه وحكايات وحيوات خاصة بهم. لكن شهادات بعضهم تتعدى ذواتهم لتكون توثيقاً لحياة زملائهم الأسرى.أكرم سلامة يروي حكاية شهدها في "سجن الرملة"، حيث كان ممثلاً لأسرى "حماس"، وشهد معاناة محمد حسن أبو رضوان ذي الخمسة والستين عاماً، الذي نُقل، بعد عشرين يوم من الألم المتواصل، إلى مستشفى متخصص، ليكتشف الأطباء، بعد إجراء الفحوصات، أنه مصاب بسرطان في الرئتين، وأن المرض في حالة متقدمة. تفصيل صغير مما جرى بعدها لأبو رضوان، يلخص بشاعة النظام الاستعماري.

شهادات متعددة ومؤلمة يتضمنها الكتاب. في أماكن، تُروى بطريقة حيادية مثل المقطع السابق، وفي أماكن أخرى يعالجها الكتّاب لتبدو كنص أدبي. لكن من الواضح أن العرض البسيط والمباشر للشهادات كان سيحمل التأثير نفسه. فأبطال القصص جلّادون وضحايا، والأخيرون متجلّدون بالعزيمة والصبر. هكذا نرى المأساة مع البطولة، والألم مع الأمل.

من نفس القسم الثقافي