الثقافي
الروائي متجولاً في سراديب الهوية
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 20 أكتوبر 2019
للسرد في روايات باتريك موديانو ميل إلى البحث؛ السبر في سراديب الهوية، لا بمعناها الأيديولوجي الضيق، بل بما تشتمله من ذكريات وعلاقات ومصائر. وبمقدار ما يكون المكان نقطة انطلاقه ومحور بنيته السردية، فإنّه يشكّل منطلقاً للخلاف والاختلاف. أبطال رواياته يميلون إلى الترحال داخل أنفسهم أو عبر أسئلتهم الخاصة.
بطل "شارع الحوانيت المظلمة" (روايات الهلال)، مثال عن تلك الشخصيات. في تقاطع مع قول محيي الدين بن عربي، "أنت تعرف الاسم الذي أطلقوه عليك، ولكنك لا تعرف الاسم الذي هو لك"، يبحث البطل متعدّد الأسماء عن ذاته/هويته، عبر رحلة طويلة. كأن في تغيير اسمه، في كل دولة يزورها، محاولة للعثور عن الاسم الذي "هو له".
التيه، والترحال عبر البلاد في رحلة بطل الرواية فاقد الذاكرة، هو محاولةٌ للعثور على مرجعية له؛ على تاريخ يمكن معه أن يعرف نفسه. البطل، تال، أو جوي، اختفت زوجته، دنيز، بعد أن فقدت الذاكرة هي الأخرى قبل عشرة أعوام. البحث عن المعنى في الرحلة دفعت الرجل إلى التنقل من أميركا إلى الاتحاد السوفييتي إلى إيطاليا، وفي كل واحد من هذه البلدان، تختلف اهتماماته وهواياته، ويلتقي بمن يمنحه شيئاً من ماضيه، مثل لعبة "بازل" يكمل ترتيبها.بعد رحلات إلى مدن متعددة تذكر فيها تفاصيل متفرقة، يتجه أخيراً إلى بيته في روما، ويتذكر وهو يرتقي سلم العمارة التي كانت تقيم فيها زوجته، كيف رأى ذات مرة وجهها الفوسفوري المشع، في مشهد عصيّ على النسيان. هنا يعرف هويته الحقيقية. غير أن موديانو لا يبلغنا باسم البطل الحقيقي، ولا بهويته، وتنتهي الرواية وكأن مؤلفها تعب بعد أن أنهكته رحلة البحث، مثلما فعل بطله؛ تاركاً لقارئه مساحة واسعة من التفكير والتكهن.
أما في رواية "مجهولات" (دار ميريت)، فيرصد الكاتب سير ثلاث بنات عابرات في باريس. يقتنص موديانو في هذه الرواية سيَر وحيداتٍ في ضجيج المدينة، أنهكتهنّ الحداثة وضيّعتهن في تروسها التي لا تكترث بالمشاعر. واحدة منهن تحلم بالذهاب إلى العاصمة الفرنسية، وحين تصل إليها، تكتشف أن واقع المدينة لا يتفق مع أحلامها، فتفشل في المقابلة لتصبح عارضة أزياء، ثم تتذوق مرارة من نوع آخر بعد وقوعها في الحب، إذ يختفي حبيبها الناشط السياسي البيروفي، فتجرّب الخيبة العملية والعاطفية وتتيه في نهر المدينة.
بنت أخرى من قرية صغيرة، تتجرع عذابات زوج الأم فتترك البيت وتحوّل الراديو إلى عالمها الذي يزيّن لها السفر إلى باريس. تسافر إلى هناك لتعمل مربية في بيوت الأغنياء، لكنها تتعثر بشخص يتحرش بها فتطلق عليه النار وتهرب، ليبقى مصيرها مجهولاً. أمّا البنت الثالثة، اللندنية التي تقرر تغيير عالمها بالذهاب إلى باريس، فتعيش في حيّ مجهول، غريبة عمّن حولها، وجاهلة بهم في آن، في الوقت الذي تتفاقم فيه رتابة الأيّام من حنينها وضياعها.