الثقافي

رسالة أخرى إلى أشرف فياض

النظام هو الذي يُدين نفسه عندما يضع شاعراً في السجن

أودّ أن أبدأ هذه الرسالة، وتلك ليست عادة مألوفة لدَيّ، بمَقُولة: "الشجاعة هي مسألة تدبير" حسب تعبير أنْدريه مالْرو. لماذا؟ تعلم أنني أنا أيضاً سُجنتُ لسنوات، وفي فترة معيّنة من هذه التجربة، تعرّضَت حياتي للخطر. يمكنني إذن وضع نفسي في مكانك ومحاولة تخمين ما يدور في ذهنك وقلبك وأحشائك، وتخيّل كيف تدبّر أمورك كي لا تعوزك الشجاعة.

بخصوص هذه النقطة بالذات، أعرف أنك تتوفّر على مَقْدرة من الدرجة الأولى: الشعر، والذي لن أتردد في تعريفه كمدرسة للشجاعة. ألا تكمُن الشجاعة الحقيقية في ممارسة ما تُعلمنا إياه تلك المدرسة: البحث عن الحقيقة حول ذواتنا مهما كلفنا ذلك، رفضُ الإجماع أياً كانت طبيعته، الاستقلالُ عن السلُطات المُكوَّنَة، خوضُ المعمعة مع اللغة التي نعبّر بها عن أنفسنا، والإخلاص للكلمة المُعطاة في ما نكتُبه؟بعد قراءة ديوانك "التعليمات بالداخل"، أولاً باللغة العربية، وبشكل أكثر حميمية من خلال ترجمتي إياه إلى الفرنسية، اكتسبتُ اقتناعاً بأنك قد أكرمت تماماً متطلبات هذا التعليم ووُفِّقتَ في دمج مبادئ منظومته الأخلاقية. وهذا هو ما يمكّنك بالتأكيد من أن تظل في زنزانتك مرفوع الرأس، ماذا أقول؟ بل شامخاً بين النجوم، وأن تحتفظ، حتى في أحْلَكِ الليل بعينيك مفتوحتين داخل ذاتك، وبنفس القدر خارجها، على الوضع البشري.

أتدْري أشرف، تُراودني أحياناً فكرة مجنونة، أو بالأحرى مُخالِفة للصواب، وهي أنني أعتقد أنه في البلدان التي يسود فيها التعسّف وحيث تُنتَهك الحرية وتُداس كرامة الإنسان، فإن المكان الحقيقي للشاعر... هو السجن! من هذا المَعقِل أو من "قلعة المنفى" هذه تكون له قدرة أكبر على إدانة النظام الذي يضطهد شعبه. في الحقيقة، إنه النظام هو الذي يُدين نفسه، وبشكل ساطع، عندما يضع شاعراً في السجن.

هيّا، دعْنا نَعودُ إلى أشياء أكثر رُشْداً ومرغوب فيها بشدة! حريتك التامة والكاملة، والتي نطالب بها نحن آلاف الشعراء ومئات الآلاف من المواطنين في جميع أنحاء العالم. نعم، دعنا نواصل بناء هذا الحلم، ودعنا نؤمن به بقوة! لنتمسك بالأمل، معاً.

* وردت هذه الرسالة - التي ترجمتها سناء درغموني لـ "العربي الجديد" - كمقدّمة للترجمة الفرنسية التي أنجزها الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي لمجموعة أشرف فيّاض؛ "التعليمات بالداخل"، والتي حملت في الفرنسية عنوان "أعيش أوقاتاً صعبة"، وقد صدرت منذ أيام عن "بيت الشعر رون آلب" في فرنسا.

يُعدّ هذا العمل التفاتةً جديدة إلى فيّاض (1980) المسجون في السعودية منذ كانون الثاني/ يناير 2015، على خلفية اتهامه من قبل "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" بأنّ مجموعته الشعرية "التعليمات بالداخل" (بيروت، 2007) تتضمّن أفكاراً "تدعو إلى الإلحاد"، وقد حُكم عليه أوّلاً بالسجن لأربع سنوات و800 جلدة، ثم استُؤنفت القضية، وتحوّل الحكم إلى إعدام قبل أن يجري إسقاط الحكم بالإعدام في بداية 2016، مع استمرار السجن (ثماني سنوات هذه المرة).

حملات كثيرة شهدتها مدن عربية وأخرى حول العالم، من أجل إطلاق سراح الشاعر الفلسطيني، شارك فيها مثقفون من جنسيات مختلفة ومن مجالات فنية وأدبية ومتنوعة، لكن جهودهم لم تجد إلى اليوم سوى تجاهلٍ من السلطات السعودية.

جميع هذه المحطّات يتوقّف عندها الكتاب، وكأنها إشارة بأن قصائد فيّاض - وعلى الرغم من كونها كُتبت قبل اعتقاله - باتت لا تُقرأ بمعزل عن هذا السياق.

الوكالات

 

من نفس القسم الثقافي