الثقافي
"إخوتي المزيّنون بالريش": شرايين مفتوحة هنا وهناك
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 06 أكتوبر 2019
من التواطؤات الجميلة التي يُتيحُها الشِّعْرُ أحياناً أن يجعلك تتعرَّف إلى أشخاصٍ تقتسمُ معهم نفس المشاغل والاهتمامات، فيكشفون لك عن بعض الأسئلة التي تقلقهم فتجعلهم يكدُّون جاهدين لصياغتها في مشروع متكامل البناء، يضيفون إليه في كلِّ حين لبنة تقتربُ من دائرة الاكتمال، حتى إذا ما بدا أنه يشارفُ نهاياته انفتح على فضاءات أخرى أكثر عمقاً وأكثر تعقيداً، مجدِّداً ومعمِّقاً الأسئلة، وهو يعيد صياغتها في دوائر تتوالدُ ولا تنتهي.
مشروع قد يتقاطع في كثير من الجوانب مع الأسئلة والتأملات التي تشغلك، ذلك هو شأن الكاتبة والمترجمة الفلسطينية غدير أبو سنينة، فقد قدَّمتْ على مدى سنوات للقراء العرب عشرات الأصوات الشعرية اللاتينية المختارة بعناية بالغة من خلال ترجماتها المميزة، كما ترجمت إلى الإسبانية الكثير من شعراء اللغة العربية، كما كتبت عدداً من المقالات والتحقيقات حول الهجرة العربية إلى أميركا الجنوبية والوسطى، وعن مواضيع سياسية راهنة، واستعادت أصواتاً شعرية كبيرة ذات أصول عربية من سورية ولبنان وفلسطين، مثلما حاولت تقريب الفجوة بين القرّاء العرب وبين الثقافة والتاريخ والعادات والفنون والمعتقدات في العالم الأميركولاتيني.كتاب "إخوتي المزينون بالريش" يندرج في هذا المشروع الكبير والمُتعدِّدِ الرَّوافد، فهو يقدَّمُ بشكلٍ ضمنيٍّ على أساسِ أنه ينتمي إلى الأدبِ الرّحْليِّ في صنف اليوميَّات، على اعتبار أن اليوميَّات تنويع ضمن الأدب السير-ذاتي، خاصة وأن الكتاب نال "جائزة ابن بطوطة" لليوميات عام 2017، فما الذي يثير القارئ في هذا الكتاب الذي يمتدُّ في 230 صفحة؟
ينقلنا الكتاب عبر فضاءاتٍ مختلفة في بعض بلدان أميركا اللاتينية، وعلى الأخص أميركا الوسطى، نجد فيه محكيات عن شخصيات عربية بسيطة كان لعبورها من القارة الجديدة جانب من الطرافة فرض على الكاتبة ألا تقف متجاهلة دلالات حكاياتها، مثل شخصية عبد الله أبوسرية والحكاية المؤثرة للفلسطيني راجح أبوشهاب وحكاية عقاب وغيرهم، ناهيك بحكايات شخصيات لاتينية ذات عمق تاريخي مثل ما حدث لهرنان كورتيس مع لامالينشه وموكتيسوما زعيم قبائل الأزتيك.
في تقديم لجنة جائزة "ابن بطوطة" نقرأ تلخيصاً لهذه التجربة: "يومياتٌ دُوِّنتْ في أميركا اللاتينية لكاتبة ومترجمة مهاجرة من فلسطين روت فيها مشاهدات وملاحظات وأخباراً من قلب تجربتها مع الناس، عاديين ومثقفين، باعة وتجاراً وكتاباً بعضهم من بيئة المهاجرين من أصولٍ شامية، وغيرهم من السكان الأصليين في نيكاراغوا حيث تقيم الكاتبة، وكذلك في كوبا وبورتوريكو والمكسيك وهندوراس وغواتيمالا والسلفادور وكوستاريكا حيث قيّض لها السفر والاحتكاك بالناس في تلك البلدان البعيدة...".
إن الكتاب بشكل عام يعطينا صورة مشرقة عن "الهندي الأحمر"، وينسف منذ البداية الصورة النمطية التي رسختها السينما الهوليوودية في أذهان الناس، فالعنوان لا يدع مجالاً للشك في ذلك، ثم ونحن أمام العتبة الأولى للكتاب، يصافحنا عنوان المقدمة التي وضعتها المؤلفة: "كلُّ ريشة هي لهبٌ من الحبِّ"، فالكتاب يختزن طاقة محبة كبيرة تجاه شعوب القارة الأصلية التي تعرّضت على مدى قرون للإبادة من طرف الرجل الأبيض.