الثقافي

"فهم القرآن الحكيم": تَفجّر القلب أم تفكّر العقل؟

بعد الفراغ من "نقد العقل العربي"، ارتأى المفكر المغربي محمد عابد الجابري (1935-2010) أن يُكلل مسيرته بعمل جامعٍ عن القرآن، خصّص القسمَ الأول منه للبحث في جذور نشأة النص القرآني وتدوينه. وتصدّى في قسمه الثاني إلى فهمه وتفسيره. فأنجز مدونة أطلق عليها عنوان: "فهم القرآن الحكيم: التفسير الواضح حسب أسباب النزول"، استهلها بمقدمة بيَّن فيها دواعي التأليف وقواعد إنجازه.

ولعل أهم ما يميّز هذا "التفسير"، وهو مُغاير لما اعتدناه في هذا الجنس من الخطاب، اعتماد الترتيب التاريخي لنزول السور. فهو يشرحها مع مراعاة مبدأ تنزلها المتدرّج، بحسب تطوّر وقائع السيرة: يضع كل سورة في سياقها التاريخي ويحللها في ضوئه، محققاً بذلك "لحظة الفصل" عن التراث التفسيري الذي أثقل النص بتأويلات مُسقطة. إذ أهمل ذلك التراث حقيقة بديهية مفادها أن آيات القرآن كانت تتنزّل بالتوازي مع أحداث السيرة النبوية: إرشاداً وهدايةً أو تثبيتاً وتسلية وحتى توجيهاً وعتاباً. وهكذا ربط صاحب "الخطاب العربي المعاصر" بين تعاقب نزول القرآن ومراحل الدعوة المحمدية، مطبقاً مبدأ نفيساً في الدراسات الإسلامية: "قراءة القرآن بالسيرة وقراءة السيرة بالقرآن"، وهو ما يكشف العلاقة الحميمة بين القرآن الكريم وحياة النبي.إذ لا يرتبط الذِّكر فقط بالظروف التي أثبتها العلماء في مبحث "أسباب النزول"، ومن المؤلفات الشهيرة فيه كتاب الواحدي (ت. 1057)، بل يرتبط أيضاً بمراحل الدعوة وتطور موضوعاتها.

كما يخالف هذا النهجُ التمييزَ الشائع بين المكي والمدني، بما أنه يتابع فترات التنزيل بحسب محاور الدعوة التي انطلقت بالتعريف "بالنبوة والربوبية والألوهية (السور السبع والعشرون الأولى)، وتطرقت بعدها إلى مسائل البَعث والجزاء ومشاهد القيامة، في السور الاثنتي عشرة الموالية. واختتمت بمرحلة "إبطال الشرك وتسفيه عبادة الأصنام"، في السور الخمسَ عشرة التالية. وجاءت السور الثماني والثلاثون التي بعدها في طور الصدع بالدعوة، في حين تعلقت السور الباقية بمسيرة النبي في المدينة.

وهكذا اتبع الجابري في شرحه هذه السور خطوات ثلاثاً: التقديم والهوامش والتعليق، ضمن آلية متكاملة: فهو يقدّم السورة ويذكر سياق نزولها. وفي الهوامش، يضيف الملاحظات المطولة التي لا يسمح بها الشرح الخطي. ويختم بخلاصة مركزة يذكر فيها رأيه في إشكالٍ قد تثيره آية ما، ضمن السورة المشروحة.

ولتحقيق هذه الآلية، استخدم المفكر المغربي شبكة النَّقْط والإعجام والتشكيل وسائر أدوات تصفيف النص المرئي طلباً لتقسيم واضحٍ لأجزاء المعنى وتمثيلٍ إملائي سلسٍ لها. وقد طبَّق الجابري هذا النظام، لأول مرة في تاريخ رسم المُصحف، لتيسير إدراك انتظام المعاني في الذهن بحسب ارتسامها على الورق.

ومع ذلك، لا يمكن اعتبار عمل الجابري "تفسيراً" بالمعنى الذي اصطلح عليه العلماء الكلاسيكيون ووضعوا فيه أشهر كتبهم، مثل الطبري والقُرطبي من القدماء، وابن عاشور والمراغي من المحدثين. بل هو تعليقات وملاحظات تسعى إلى إضفاء المعقولية على تعقيدات النص القرآني وإظهار تجانس "منطقه البياني". ذلك أن أكثر ما يؤرّق القارئ غير المسلم وغير المتخصص -والفكرة لريجيس بلاشير (1900-1973)، هو تكرار بعض الآيات وغموض دلالاتهاـ فضلاً عن تضاربها في الظاهر.

ويُضاف إلى هذه السمة، تركيز الجابري على القضايا الفلسفية، أكثر من اهتمامه بالمسائل ذات الطابع الاجتماعي والسياسي التي فُرضت على المهتمين بالقرآن، خصوصاً منذ ابتداء عهد النهضة، بالرغم من أنه كان من أبرز مَن عاشر نصوصها. فكأنه أغلق بذلك على نفسه أبواب القراءة الموسّعة لكتابه، الذي كان يمكن أن يبلغ أهدافاً أبعد لو أنه راعى الذهنيات العامة للقراء المحتملين.

ومن جهة ثانية، خلا هذا التفسير من الإشارة إلى مسائل محورية شغلت المختصين بتاريخ القرآن وتفسيره، خلال القرن الماضي، ومن أهمّها مدى صحة الترتيب التاريخي الذي أنجزته مدرسة الاستشراق الألمانية بإشراف نولدكه (1836-1930) وشوالي (1863-1919)، ثم الفرنسية ضمن أعمال بلاشير.

من نفس القسم الثقافي