الثقافي

"معجم الحيوان".. لسانيات في دائرة المعارف التجريبية

يُؤكّد كتاب "معجم الحيوان"، للطبيب وعالم الحياة اللبناني أمين المعلوف (1871 ـ 1943)، وقد مضى على تأليفه أكثر من قرنٍ، إمكانية التلاقي بين الطب واللسان.. بين معارف الطبيعة والأحياء وتصاريف العبارة والأسماء.

أُنجز هذا المعجم حين كان صاحبه مديراً للشؤون الطبيّة في الجيش العراقي، وفي الآن ذاته عضواً في "المجمع العلمي العربي" في دمشق، في مسار نادر، يجمع بين المعرفة التجريبية بالحيوان والإتقان الكلّي لقضايا اللسان، من تسمية وترجمة وتوليد معانٍ.

كان الطبيب اللبناني عالماً بالنبيت والوحيش (والمفردتان من اقتراح المعجمي التونسي إبراهيم بن مراد ترجمةً لمصطلحَي: fauna وflora)، وفي الوقت نفسه، عاكفاً على نصوص التراث، متابعاً أعمال المستشرقين من معاصريه وما ينهضون به من أعباء نشر المخطوطات، مع علماء العربية الذين نشطوا في التحقيق والشرح ضمن إطار إحياء اللغة العربية وتنشيطها من عِقال الجمود والغموض.

يندرج المعجم، الذي نُشر بشكل مسلسل في مجلة "المقتطف" بداية من عام 1908 قبل أن يصدر لاحقاً في كتاب عام 1932، ضمن المعجمات المختصّة التي تُوفّر تعريفات ومعلومات علمية عن حقل دلالي مخصوص.اختار المؤلّف الإلمام بحقل أسماء الحيوانات، بعد أن جمعها، بصبر دؤوب طيلة عقودٍ، ينتقيها من كتب الأدب والتاريخ والرحلة، وكلّها من التراث، مضيفاً إليها ما جاء في أعمدة الصحافة المعاصرة له، وقد غدت من أقوى المولدات الاصطلاحية، وما ورد في كتب الرحّالة الأجانب، ومنهم مستشرقون وجغرافيّون جابوا أرجاء البلاد العربية وتعرّفوا إلى خصائصها الطبيعية والجغرافية.

كما متح مادته الضخمة من عمله التوثيقي وحضوره الميداني مديراً للصحّة في مدينة جدّة، ثم أستاذاً للعلوم الطبيعية في دمشق، وأخيرا مديراً للشؤون الصحية في الجيش العراقي. وهو ما يؤكّد أن المعلومات الثرية التي ضمّنها كلَّ مداخل الكتاب مستقاة، ليس فقط من بطون الكتب، بل من معايشة فعلية للبلاد العربية وما في صحاراها وغيضانها وتِرَعها من الوحيش؛ إذ من الاطلاع على عجائب الطبيعة ومشاهدتها عياناً، اكتسب خبرة كبيرة بعالمَي الحيوان والنبات، فضمّ أسماءها في معجم واحد، مصنّفٍ "حسب الطريقة الفرنجية".

وكان في عمله هذا مدفوعاً برغبة في التحقيق اللغوي والتثبّت من دلالة كل اسم على مسمّاه الحيواني الدقيق. ومن هنا، ولج قضية الترجمة وجهد في إيجاد المقابل الأجنبي الدقيق لكل اسمٍ، فقدّم المقابل اللاتيني، الإنكليزي والفرنسي، وما يناسبه من المفردات العربية مُبيّناً مدى تطابقهما من عدمه، متّبعاً في ذلك منهجاً صارماً يقوم على "توخّي الألفاظ أوّلاً من الفصيح، ثم ما عَرّبته العرب، ثم ما عرّبه المولّدون ثم العامّي، ثم ما عرّبتة العامّة" على هذا الترتيب لسجلّات اللغة، من الأعلى نحو الأدنى.

والعجيب أنه قرّر تجنّب التوليد إلا في الحالات النادرة، والاكتفاء بما ورد في قواميس اللغة ومتون الأدب. يقول: "لم أترجم أو أعرب أو أضع إلّا ألفاظاً قليلةً جدّاً، لأنّ الغرض من هذا المعجم كان تحقيق ألفاظ وردت في كتب اللغة والمؤلّفات العربية وصحّة ما يُقابلها بلسان العلم الحديث".والعجيب، أيضاً، في ذكر التعريفات وجمع المادّة أن المؤلّف اتّبع طريقة الـمُحَدِّثين (أي علماء الحديث والإخباريّين)، وتعتمد ذكرَ الأسانيد؛ "إذ لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء"، كما كان يسود في أوساطهم. فَذكر لكل كلمة مواطنها ومَن استخدمها من اللغويّين والأدباء والرحّالة العرب والعجم، مع تحقيقٍ علمي رصين لمعانيها، وتجنّبٍ للتخبّط في متاهات التخمين.

الكتاب موسوعة اصطلاحية، تقدّم عن كل حيوانٍ اسمه العلمي ومقابله الفصيح أو الدارج، بحسب تنوّع الجهات والمناطق في العالم العربي، وهو تحفة نفيسةٌ في تحقيق تطابق الأسماء مع مراجعها الفعلية، ولا سيما حين يتعلّق الأمر بالحيوانات النادرة والفصائل المنقرضة والأنواع الغريبة، يمكن استخدامه في قراءة كتب التراث ومعرفة ما تحيل عليه. كما يعكس مرحلة دقيقة من مراحل التأليف المعجمي إحياءً للغة الضاد ودفعا لها حتى تدخل معترك المعاصرة من بوابة اللغة، وهي آمن نوافذ التحديث وأولاها.

من نفس القسم الثقافي