الثقافي

"مكتباتهم": العالم بوصفه رفوفاً مفهرسة

يحار القارئ في كتاب "مكتباتهم" للمترجم والقاص المغربي محمد آيت حنا، الصادر عن دار "توبقال" المغربية، عند محاولة تصنيف أو إدراج الكتاب، تحت جنس أدبي أو شكل كتابيّ معروف. العمل تجتمع فيه سمات وملامح وشذرات، تتداخل حيناً وتفترق حيناً، من القصة القصيرة والمقال والتحقيق الصحافي والبحث العلمي والتأملات.

يبدأ الكتاب في قسمه الأول بالتمهيد لعمل المترجم المغربي عبر تقديم، يحمل طابع السيرة الذاتية، عن علاقته مع فكرة المكتبة والكتاب، فيروي فيه جزءاً من علاقة أجداده لأبيه وأمه مع المكتبة، وكيف تقاسم الورثة المقتنيات كما تقاسموا الأشواك والسكاكين، وكيف سعى الكاتب إلى لمّ شظايا تلك المكتبة التي جمعها فلاحون "لا يضعون الكتب في المكتبات".

البعد الذاتي السابق، قاد الباحث المغربي إلى كتابة "مكتباتهم"، والذي يشغل القسم الثاني الأكبر في الكتاب، وفيه يبني "مكتبة مفهرسة"، على حد تعبيره، لتشمل مكتبات "تواطأ مع أصحابها على بنائها أو إبرازها أو حتى نقضها أو هدمها".

عملية البناء السابقة تتشكل دعائمها من أعمال وكتابات وأفكار عديد من الفلاسفة والكتاب والعلماء، سواء من تحدثوا بشكل مباشر في أعمالهم عن أفكار المكتبة والقارئ والكاتب، أو من لم يشيروا لذلك. نجد عناوين القسم الثاني (الأساسي في الكتاب)، عناوين لتأملات في مكتبات: بورخيس والجاحظ وكيليطو وإيكو وأفلاطون وهاوكينغ وبنيامين وابن سينا ويوسا وباموق وبنعبد العالي… وغيرهم.

عند محاولته تشييد أي مكتبة من مكتبة الأعلام الذين خصهم حنا في كتابه، نجد أمانة وبحثاً حراً في تقديم أفكار وتصورات كل منهم، مستعيناً في الوقت ذاته بمقالات وأفلام وكتب ناقشت الفكرة ذاتها، دون أن يخفي آراءه وتصوراته حول أي منهم.

يستحضر في السياق السابق رائعة "أجنحة الرغبة" للسينمائي الألماني فيم فيندر، ووصف أفلاطون لأرسطو بأنه "قرّاء جيد"، ليحط من شأنه لأن القارئ في الثقافة اليونانية ينظر إليه كتابع. يذكر كذلك التوحيدي الذي كان يسعى إلى محو كل ما يدل على اسمه، عبر الحديث بلسان أساتذته وأعلام عصره، أو الجاحظ في مكان آخر الذي وصفه ابن قُتيبة بالكاذب، لأنه تجاوز مرحلة اختراع الكلام إلى اختراع المتكلّمين ليقول ما يريد قوله، وهذا ما يجده آيت حنا مصدراً للسحر في اشتغالات صاحب "الحيوان".

يعنون الكاتب القسم الثالث والأخير بـ"بناية ملحقة بالمكتبة"، ويحتوي على قصة "المكتبة" لأحمد بوزفور، حيث يعيش البطل فيها توتراً بين عالمين: مكتبته ومكتبة العالم المعقدة. ليقدم حنا من خلال تضمين القصة ما أراد قوله في إحدى صفحات الكتاب "جميع القراء يعيشون هذا التوتر، بعضهم يغرق في عالم الكتب المضلل، وبعضهم الآخر يستفيق".

وكأن آيت حنا أراد أن ينقل لقارئه جزءاً من التوتر الذي كان يؤرقه كقارئ، فكان يطل كل حين على العالم الخارجي أثناء تأمله لـ"مكتباتهم"، وهو ما يكون إما باقتباسٍ من حكايته الخاصة، أو بعرض النقاشات بينه وبين الكتّاب الذين عرف مكتباتهم في حياته.

"مكتباتهم" لا يقدم المعلومات والنقاشات والتأملات الفكرية والفلسفية بتجريد مدرسي جاف، فموت المؤلف وفكرة المكتبة/ المقبرة والمكتبة الكلية والعالم المكتبة، وغيرها من المفاهيم التي يعتمد عليها عمل حنا، تُناقش بسلاسة وحرية مطلقة لتبقى المتعة، بأشكال متعددة طبعاً، أحد أساسيات عملية القراءة.

آيت حنا في عمله هذا، يختار كباحث أكاديمي أسلوباً نادراً ما نجده عربياً، وهو ما زال يحتاج إلى جهد وتطوير كبيرين، ليصير جسراً متيناً للعبور نحو القارئ. قدم حنا عملاً حاول فيه أن يحرر النص البحثي من ثقله وصرامته المدرسية، ليكون قريباً من القارئ، وحتى لا تصير مكتبتنا العربية يوماً ما مكتبة مقبرة لا يمكن إنعاشها أو بعثها.

من نفس القسم الثقافي