الثقافي

"الليل" لـ ميكائيل فوسيل: جولة خارج الذات النهارية

ليس الليل من موضوعات الفلسفة التقليدية. ولم يكن له ليكون كذلك في ظل تقليد لا يكفّ، منذ ديكارت على الأقل، عن اعتبار الوضوح، ومعه المَيْز (الفصل بين الأمور وفرزها)، شرطاً أولياً لكل فلسفة وفكر منهجيّ.

ولا يُفاجأُ المرء إذ يعرف أن الوضوح، في العربية، وكذلك في غالبية اللغات الماتحة من اللاتينية، من عناصر النهار وصفاته. إذ ليس الوضَحُ، كما يذكّرنا "لسان العرب"، إلا "بياض الصبح والقمر". والأمر ذاته ينطبق على المقابل الفرنسي (clair) الذي يعني أساساً نور النهار وبريقه. ولعلّ تحوّل الكلمة (وكثير من صفات النهار) في لغات عدّة إلى استعارة عن الجلاء والدقة وحتى الخير، لدليل على تفضيل تاريخ الفكر النهارَ على الليل، الضوء على العتم والفجر على الغروب.

رغم صواب هذا الاستنتاج التاريخي من نواحٍ عدة، إلا أن التوقّف عند نتيجته قد يحول، من نواحٍ أخرى، دون القدرة على التفكير فلسفياً في خصوصية الليل.

ولعلّ ميكائيل فوسيل على حقّ إذ ينبّه إلى ضرورة تجاوز الثنائيات والمقارنات بين الليل والنهار وقيَمهما في أي مسعى لدراسة الليل. في كتابه الأخير "الليل: العيش بلا شاهد" (منشورات أوترمون)، يختار المفكر الفرنسي، بدلاً من ذلك، مساءلة الليل بوصفه مكاناً للتجربة: ما الليل إذ يعيشه المرء ويخبَره؟

الإجابة عن هذا السؤال تبدأ بتحديد المقصود بتعبير "تجربة الليل". إذ لا تعني الأخيرة بقاء العينين مفتوحتين طيلة الليل، ولا تعني، أيضاً، مجموع النشاطات الليلية على اختلاف أنواعها. فالعمّال المناوبون ليلاً والمرضى والأرِقون لا يخبَرون الليل، بل يُقاسونه.

إنهم يقضونه وهم يفكّرون بأيّ شيء غيره. بل إن تجربتهم الليلية تنتهي قبل أن تبدأ: هي تولد ميتة، بسبب رغبتهم في انتهاء الليل وانتظارهم لهذه النهاية. أمّا السهارى المحترفون، والرومانسيون، الذين يختارون صحبة النجوم، فليسوا أقلّ بعداً عن تجربة الليل من سابقيهم.إنهم يعرفون كلّ شيء مسبقاً عن ليلهم: أنهم سيقضونه سهارى، ويعرفون ربما الساعة التي سينامون فيها، وما سيفعلونه حتى ذلك الحين، أي حتى النهار، إذ لا يغيب عن مخطّطاتهم وأسباب خياراتهم. وهذا ما يحول بينهم وبين عيشهم الليل. بعبارة أخرى، الليل واضح بالنسبة إليهم، واختياره يعتمد تماماً على علاقتهم بالنهار وحساباتهم له، وهذا أبعد ما يكون عن تجربة الليل.

تجربة الليل الحقّ، بالنسبة إلى فوسيل، هي تلك التي يعيشها المرء بكامل جوارحه وبلا تخطيط ولا نظرات متواصلة إلى ساعة يده؛ هي تلك التي لا معاناة فيها ولا خيار؛ تلك التي يرضى فيها بالظلام الذي يجد نفسه كاملاً فيه، ولا يسأل نفسه: ما الذي أفعله هنا، في هذا الوقت؟ إن الشخص الليليّ هو بالضرورة ذلك الذي يترك الليل يقوده كما يشاء، لا العكس. ذلك أن خصوصية الليل تكمن في ظلامه، في بعده عن الوضوح ودقّة الإدراك، وكذلك في لا يقينيّته، وهي أمور لا تتناسب مع خواص ومعايير الذات الواعية والمدركة، التي تفضّلها الفلسفة والعلوم، الذات النهارية التي تظنّ أنها تقود كل شيء.

من نفس القسم الثقافي