الثقافي

حمزة كوتي: الهامش الذي يصير جسراً

يكتب حمزة كوتي قصيدته متجرّداً من أي التزام بتاريخ الشعر. ليس المقصود بذلك أن الشاعر الأهوازي الشاب (مواليد 1983)، الذي صدرت أولى مجموعاته "في البدء كان الجسر" ضمن سلسلة "أصوات عربية" في "هيئة الكتاب المصرية" قبل أسابيع، معزولٌ عن مجريات قصيدة النثر المعاصرة.

إنه على العكس من ذلك وثيق الصلة بسركون بولص ونوري الجرّاح ووديع سعادة، ولا يبعُد صوته كلَّ هذا البعد عن صوت مصري - مهاجر - مثل أحمد يماني، أو صوت مغربي مثل محمود عبد الغني. بل إنه، شأنه شأن هؤلاء جميعاً، يُحيل إلى نصّ "فان دايك" للكتاب المقدّس، ذلك الجذر الخفيّ لبلاغة نثرية طالما وظّفها الشعر العربي على تباين تجلّياته غير العروضية منذ بداية القرن العشرين، ولعلّ تلك البلاغة أشعر في الحقيقة من بلاغة التفعيلة (لكن يا لها "خناقة"!).

يمتلك حمزة كوتي زمام تلك الغنائية، بكلّ ما لها من مرونة وطموح وتنوُّع منفتح على ثقافات العالم. هنا أيضاً يتجاور باجانيني مع طرفة بن العبد، ويتبع غوايةَ "امرأة جميلة من ثمود" مشهدُ محارب مغولي يبكي على ضفّة نهر، وتتداعى الإشارات من سيزان وبيكاسو إلى الخطّ الكوفي ومنطق الطير. لكنّه ينقلها إلى مكان بعيد جدّاً عن خبرات شعراء النثر التي وإنْ آلتْ إلى سواه من مستقرّات، يظّل منبتها داخل حدود المتن. حمزة كوتي متجرّد من تاريخ الشعر، لأنّ نصّه اختمر في مساحة لا علاقة لها بمقاهي المثقّفين أو حاناتهم في مدن العروبة المركزية ومداراتها.إنه يكتب في فضاء غسقي يعكس موقعه كعربيّ في أرض - أخرى - محتلّة، ولعلّه يعكس مواطَنةً إيرانيّةً من الدرجة الثانية كذلك، والتباساً هويّاتياً مركّباً على الجانبين. ناقل أدونيس ومحمود درويش إلى لغة العجم القديمة يكتب فارسيته المعذّبة في العربية، كما يكتب لهجته العراقية في فارسيّة مغيّبة على الأرجح.

يكتب: "أقول بصدق أنا لا أتقن لغةً ولا أعرف هذه الطريق". وفي قصيدة عنوانها "إلى عمر الخيّام" - الفلكي والفيلسوف صاحب الرباعيات الأشهر هو فارسيّ ذو أصول عربية، أبدع بكلتا اللغتين قديماً كما حضر حديثاً في كلتيهما - يكتب حمزة كوتي: "أتهجّى المفردات التي دخلتْ عنْوةً لغتي الملحونة". هو المترجِم بين لسانَين في اتصالهما وانقطاعهما شيفرةُ الصراع والمأساة، يكتب كمن يحفر نفقاً للفرار من كل لغات العالم.

يكتب مائة قصيدة كلٌّ منها عبارة عن فقرة واحدة نحيلة، قليلاً ما تتبعها فقرة ثانية أو أكثر، ونادراً ما تنفرط إلى سطور. عبر هذه الكتل الحييّة أسفل الصفحة، يُوجِد حمزة كوتي مرادفات جماليّة للمعضلة الجيوسياسية التي يطلّ من ثنياتها، ويقيم جسوراً مجازيّة متعدّدة عبر استعارة تتكرّر: فضلاً عن عبور الجسر كدليل أوّليّ على الاجتياز والتجاوز - أو التوق إليهما على كلّ حال - هناك الهجرة، السفر، التهريب، الإبحار، العودة، اللقاء، الطيران، الدفن…

ها هي ذي - مثلاً - قصيدة كاملة: "تَقدّمْ؛ وَصَلْنا. هذه الطريق تؤدّي إلى النار. رأيته في أفضل صورة، لكنّه لم يلتفتْ إليّ؛ قال إنّه لا يحدّق في أحد أيام الخميس. قتلوا بالسهام تسعة شبّان معصوبي الأعين، ثمّ جاء أحدهم وأطلق إطلاقة الرحمة في رؤوسهم. تقدّم؛ وصلنا. قال هؤلاء كانوا يهرّبون الجمل عبر خرم إبرة. تقدَّم؛ وصلنا. هذه جنائن يسكنها صانع القوارب".

بل وثمّة ما هو أقصر من ذلك: "تُمطر في الفجر وثمّة امرأة عارية تجلس على الشاطئ وشعرها الطويل يغطّي ظهرها المنحني. ترسو الزوارق ولا تراها. يأتي صابئيّ ولا يراها ويأتي صيّاد ولا يراها وهي جالسة على الشاطئ وتُمطر ولا أحد يراها: لا قافلة العطر التي وصلتْ توّاً للمدينة ولا أنا الواقف هنا".

هكذا يوازن حمزة كوتي بين وحدة القصيدة والموتيفات عابرة القصائد، فهو يدوزن الصورة على أكثر من معنى محتمل من دون أنْ يُفقدها طاقتها السرديّة: "كنتُ على الجسر أمشي ومعي هنديّ أحمر يمشي".

يطلق العنان لغنائه قليلاً: "سأصنع من علبة سجائرك زوارق وأعيدها للماء، يا صديقي الذي مات في انتظار القمر". ويستدلّ على الواقع الاجتماعي بأصدائه في اللاوعي: "معلّم يصرخ أنا نادم على ما قرأته من كتب؛ ثم تغرز الشجرة فرعها في رأسه". إنه يستنطق اللاوعي بشجاعة نادرة حقّاً، شجاعة من يعرف أنّ قارئاً واحداً "يكفي لكي ينتصر الكاتب على مأساته".

من نفس القسم الثقافي