الثقافي

الأمير عبد القادر الرجل الذي عاش حيوات كثيرة

فيلسوف في التصوف ومتصوف في الفلسفة

في كل ذكرى للأمير عبد القادر الجزائري يتكلم الجميع عن الرجل المتعدد, الفارس الشاعر والمتصوف ورجل الحرب والسلم, ويستعيد العالم طيف من خط أولى تعاليم حقوق الإنسان بنصها المعاصر, ويجمع الاعداء والأتباع أنه طفرة في التاريخ الإنساني من خلال حضوره على صفحات التاريخ والأدب والتصوف والسياسة والاستراتيجيات الحربية وحماية الاقليات, إنه يكاد يكون الرجل الذي عاش حيوات كثيرة.

ولد الامير عبد القادر في 6 سبتمبر 1808 وتوفي في 26 مايو 1883, أمضى سنوات حياته يصنع الأحداث ويروض الأقدار, إلى أن وافته المنية بدمشق التي استضافت سنوات المجد الثاني بعد مجد المعارك، ولعل الأمير رجل ينظر إليه الناس من جهات مختلفة, مثل معلم شاهق وكبير لا يمكن الاحاطة بكل جهاته, فالذي يعرفه شاعرا ويولع بقصائده ليس بالضرورة الذي يسلك طريقه في التصوف, والذي يؤمن بحنكته الحربية لا ينتبه إلى مواقفه الإنسانية وتفوقه الدبلوماسي, هكذا توارث الناس الأمير بصور مختلفة كأنه حشد من الأمراء.

ورغم ذلك شد الرجل إليه الباحثين في العالم وشيد مكانة مهمة في التاريخ الإنساني, فصارت له مدن باسمه وأحياء وفضاءات, ومواقف مسجلة, ويعتقد البعض أن تكرسه في ذهنية البعض كمحارب من أجل الوطن, وهو في الحقيقة كان رجلا يسعى ليؤسس حلما أكبر تحجيم لمكانته.

عاش الأمير حياة الصبا، ثم حياة الحرب والتأسيس للدولة، ثم حياة الأسر، ثم حياة الاحتفاء والتبجيل، ثم الخلود, وخلال ذلك ما زال يتعبد متصوفا في خلوته ويتأمل شاعرا ويفكر حائرا بينما يمنح العالم يقينه، في سنة 1858 سيكتشف العالم الامير عبد القادر باحثا في الفلسفة, حيث صدرت رسالته "ذكرى العاقل وتنبيه الغافل" باللغة الفرنسية عن ترجمة لغوستاف دوقا وهو الكتاب الذي ألفه أثناء إقامته ب "بروسة" التركية بين سنتي 1852 و1955.

وقد خاض فيه أسئلة الفكر وواقع العالم آنذاك بكثير من التواضع. حيث نبه إلى أنه يشعر بالفخر كونه من الأسماء التي يحتفي بها العالم والأوساط الفكرية, معتبرا نفسه في مسعى ليكون في المقام الذي وضع فيه, وفي هذا المؤلف ينشد الأمير كمال الوجود فيرى أن "قوة العقل هي إحدى القوى الاربع التي إذا اعتدلت في الإنسان يكون إنسانا كاملا وهي قوة العقل وقوة الشجاعة وقوة العفة وقوة العدل".

وربما يندهش من يكتشف أن الأمير عبد القادر يتحدث في كتابه عن المدنية فيعتبر أن "الإنسان مدني بالطبع فهو محتاج إلى التمدن والاجتماع مع أبناء جنسه" وهو لا يتنكر لولعه بالبداوة ولا ينتصر لقوم دون آخرين, فهذه الرؤية تتكلم عن التمدن وقبول الآخر في وقت مبكر, وهو خطاب ما زال متداولا إلى اليوم، وإذا كان للأمير فلسفته ورؤيته للوجود الإنساني, فله وجهة نظر وسلوك ورسوخ في التصوف, وهو ينتمي إلى مدرسة الأنسنة والتسامح التي ترتبط بالشيخ الاكبر محي الدين بن عربي, بل يمثل أحد أهم أعمدتها في القرن التاسع عشر, ولهذا تعود إلى أفكاره الكثير من القيم التي تسلح بها العالم اليوم.

وترك الأمير عبد القادر كتابا مهما في التصوف هو "المواقف" والذي يعد مرجعا بالنسبة للكثير من المتصوفة, ويضم الكتاب 372 موقفا, وبرز فيه ما له من مقدرة بيانية بلاغية, ولكنه أيضا كشف عن القطب الصوفي الذي اختلى للتصوف فأخرج للناس مواقفه, وكان فيلسوفا في التصوف ومتصوفا في التفكير.

لا يصدق الكثيرون أن الأمير الذي حمل السيف والبندقية هو ذاته الذي يقول غزلا في زوجته التي هي ابنة عمه والتي تزوجها بعد قصة حب, ثم غاب عنها طوال مقاومته، وإذا كان للحب نصيب من شعره فللتصوف أيضا نصيب, فالأمير يرتقي حالات صوفية في الكثير من شعره حتى يكاد يكون واحدا من شعراء التصوف البارزين، ولعل للأمير قصائد فخر ومدح وحرب وأخرى في التصوف والتدين والحكمة وأخرى في أحوال زمانه, وهي مختلفة من حيث القيمة الفنية, فبعض شعره كان أكثر اعتناء بالمعنى والفلسفة, وهو الذي جعل الكثير من القراء التقليديين للشعر يغفلونه, لكنه يبقى رغم ذلك شاعرا اتكأ على الحكمة التي ظللت شعره وروحه وتفكيره دائما.

ف. س

من نفس القسم الثقافي