الثقافي

محمد ناوي.. أكثر مما يصرّح به اللسان

تماماً مثل الكلمات، لإشارات اليَد معانٍ تَحكمها قواعد لا تقلُّ صرامةً عن تلك التي تضبط تأليف الألفاظ وما تَعقده من العلاقات. وهي حمَّالة أوجهٍ، مُضلّلةٌ دلالاتُها أو صادقة، وقد يتولَّد منها ما لا تقوله الخطابات أو يَعجز عن تبليغه حِسان الأحاديث الواضحات. ويتفاعل نظام الحركات الجسدية مع قيم الدين ومُثُل الأخلاق ومع صراع الساسة وتلاعب الزعماء، فبعضها جائزٌ محمود، وبعضها من محظور الفعل لا يَحِلُّ. منها ما يؤتمنُ في نَقل خلجات القلب، ومنها مُصطَنع ماكر، فلا يركن إليه.

ولعلَّ هيمنَة المشهدية وسلطان الشاشات جعلا من الحركة، وطبيعتها مرئيّة أساساً، أكثر حضوراً في عالم اليوم وأنهض بالدلالة من قريناتها الكلمات. فهي من التنوّع والغموض بحيث تفرّغ لها الدارسون، يَجمعونها ويصنّفونها ويستقرئون معانيها بحسب المُرسِل والمُتَلقي.

ومن آخر ما صدر في هذا الشأن، كتابُ "لساني على يَدي" (2019، ليبرينوفا، فرنسا) للباحث المغربي محمد ناوي (1957). وفيه يَعرض نتائج استماراتٍ أنجزها مع تسعةٍ وسبعين فرداً من أصولٍ مغاربية، من الجيل الأول والثاني بين سكان منطقة اللورين، شمال شرقي فرنسا. ومن شهاداتهم جمع ثمانين إشارة مما تقوم به اليد والأصابع والذقن، هي متنُ بَحثه عالجها بِحسب الوظائف والتأويلات.أوّل ما يلفت النظر في هذا الكتاب عنوانه المُثَلث: فبالفرنسية سمَّاه ناوي ما يمكن ترجَمتُه بـ"أن ترسل إشاراتٍ هو أن تقولَ أشياء"، للتأكيد على أنّ الإشارة ليست من أعمال الجسد التلقائية وحركاته الإرادية، بل هي قناة تواصل تبلّغ المخاطَبَ رسائل، قيمتها تضارع ما يُفهم من الكلمات. ثم أردفه بعنوانٍ فرعيّ، يصف المُدوّنة التي اشتغل عليها: "ثَبْتٌ للإشارات ذاتية-الدلالة التي تنجزها اليَدُ، بحسب المغاربة القاطنين في منطقة اللورين الفرنسية".

فالحَركات المجمَّعَة هنا ليست نتاج تركيم عشوائيّ، وإنما سليلة "مِنهاج المُدوّنَة" المحصورة زماناً ومكاناً، وهي من مناهج الألسنية. وهذا كفيلٌ بإضفاء طابَع العِلمية على الاستقصاء والتحليل وتخفيف حدة التعميم والذاتية. وأضاف الباحث أخيراً عنواناً عربياً، "لساني على يدي"، في كناية رائقة تشير إلى أنَّ البَيان منوطٌ باليد إناطته باللسان. ولله درّ الجاحظ حين كتب: "أما الإشارة فَباليد وبالرأس، وبالعَين، والحاجب، والمنكب، إذا تباعد الشخصان، وبالثوب وبالسيف. والإشارة واللفظ شريكان، ونِعمَ العون هي له، ونعم الترجمان هي عنه، وما أكثر ما تنوب عن اللفظ وما تغني عن الخط".

وقد قسَّم الباحث كتابَه إلى ثمانية فصولٍ، استعرض في أولها الحيثيات المنهجية لعمله من حيث هو بحثٌ ميدانيٌّ أجرِي على ثمانين نفراً، مناصفةً بين الإناث والذكور، حَسب الخطوات التالية: تُعرض وثيقة مرئية تمثّل حركةً ما، ثم يقوم الفرد المستجوب بتقليدها وإكمالها وتصحيحها وإعطاء المعنى الذي يفهمه منها. وقد تُركوا أحراراً في تقديم أيّ معنًى يريدونه وربطه بأي سياقٍ تواصلي.

من أمتع الأبواب ذاك المُخصّص للتقييم أي للتعبير عن المواقف الوجدانية كالرفض والقبول والحزن والفرح والخجل وغيرها. وفيه فقراتٌ حول دور الأصابع في الاستدلال مع أنّ الإقناع والاقتناع كليهما، وهما من أنشطة العقول، يُبنَيان بتسلسل النتائج عن المقدمات لا برسوم الإيماءات. ودرس ناوي بعد ذلك سائرَ الدلالات التي تُضاف إلى الذقن، وهو من أعضاء الوجه منسيٌّ مَغمور مع أنّ دورَه في إيصال المعنى ثابتٌ مَشهور. وخُتم الكتابُ بفصل عن الثياب والزينة، استعاد الدلالات الأنثروبولوجية التي تُسند إلى الحجاب والنقاب والنصوص الدينيّة المعتمدة لفرضهما في بدايات الإسلام.

 

من نفس القسم الثقافي