الثقافي

محمد م. الأرناؤوط: عن المَعيش اليومي للبشانقة

منذ عقود قليلة، أصبحت الأبحاث التاريخية تعتني أكثر بالمظاهر الاجتماعية وجوانب الحضارة المادية التي تُشكل نسيج المعيش اليوميّ وتنظم معاملات الناس العَفويّة كالشعائر الدينية ومواضعات التبادل التجاري وما يجري اعتماده في مواد التعليم، وقد تطاول كيفيات العمل اليدوي في الحقول والمصانع، وذلك منذ المباحث التي أجراها المؤرّخ فرنان بروديل (1902-1985) منتصف القرن الماضي على تاريخ فرنسا والمتوسّط. لقد بات المؤرّخون مَدعويّن إلى الانكباب على آثار العفوية التي تشكل ما يسميه بيير بورديو habitus أو التنشئة الاجتماعية وما لها من محددات وقواعد.

وهذا عينُ ما انكبَّ عليه الباحث محمد م. الأرناؤوط في كتابه "البوسنة والهرسك تحت الحكم العثماني، دراسات ومراجعات"، الصادر مؤخراً عن دار "الآن ناشرون وموزعون" في عمّان و"معهد الدراسات الشرقية" في كوسوفو، ففيه عاد إلى المَعيش اليومي للبشانقة في دولتَي البوسنة والهرسك، إبّان السلطة العثمانية، يحلل مظاهره في جَمْعَنَة الأفراد من خلال نُظم الإدارة وطرائق التعبد والعمران. وذلك من منسي الموضوعات بما يُكمِّل تاريخ الدول الرسمي. وتكمن جدة هذا التأليف في نوعية الوَثائق المعتَمدة لتسطير هذا التاريخ المهمش.

استُخرجت مادَّتُه من بطون الأرشيفات المحليّة، وقد كتُب بعضها بالضاد وبقيتها بالتركية أو بألسن البلقان. فمن ذلك، أنَّ الباحث عاد إلى "الوقفيات" وهي عبارة عن نصوص شرعية-قانونية، يُوقِف من خلالها محسنٌ بعضَ الأملاك كالمباني والأراضي والعقارات هبةً لطَلَبة العلم وقارئي القرآن وحتى لعامة فقراء المسلمين، فيكون ذلك الوَقفُ مصدرَ رزقهم.وتتضمن هذه الوثائق تفاصيل ممتعة تتعلق بالنظام العمراني الذي شيِّدت على ضوئه البلداتُ في هذه المنطقة بعد أن كانت مجرّد قرى نائية. فعلى سبيل المثال، بُنِيت سراييفو بفضل وقفيَّة أقام من خلالها الحاكم العثماني عيسى بك (1462) جامعاً وسوقاً وحمّاماً وزاويةً، ثم أضيفت إلى هذه النواة العمرانية عدة مرافق بفضل أوقاف متعاقبة أهمّها ما وهبه خسرو بك (ت. 1541) والذي "لا تزال روحُه حاضرة في المدينة".

ومن طرائف الفصول والأحداث، ما ذكره الكتاب عن وقفية صاغتها شاهددار، زوجة الأمير خسرو بك، فضمنتها شروطاً "لافتة"، وهو ما يؤكِّد أنَّ النساء كنَّ "شقائق الرجال" حتى في صياغة العمران وتخطيط المدن وضبط قواعد تملك العقارات وإدارتها. ولهذه الوقفيات، كما أشار إليها الباحثُ، أهمية لغوية لم تستكشف بعد وقَلَّما نَظر إليها المتخصصون في تاريخ الضاد.فبما أنَّ نصوصها صيغت بالعربية الفصحى، فقد أدْمجت العديدَ من الألفاظ الأجنبية ذات الأصول البوسنية، عبر تعريب أسماء الأعلام والمدن والقرى والأنهار وغيرها. وهو ما جعلها تشكل، في بعض المواقع، لغة هجينة تمازجت فيها عناصر الضاد بمقابلاتها من اللغات التركية والبلقانية. وحصل من هذا التفاعل نقلٌ وتعريب للكلمات والمفاهيم، ربّما يستأهل أن تَتجه إليه همم الباحثين في تاريخ الاقتراض.

كما يكشف هذا التاريخ الجديد وجهاً آخر لظروف نشأة المُدن وشروط تَأسيسها ويسلط الضوء على المكوّن الصوفي الذي ربما امتزج بعنصر الفتح السياسي- التوسعي فشكلا معاً النواة الأولى لنشر الإسلام الحنفي، ومن ثمَّ ساهما في تنظيم المشهد العمراني في تلك البلدات. ذلك أن جلَّ مرافقها المدنيّة تَدور على قطب "الزاوية" بوصفها رباطاً يحفظ للمنطقة دينها ويقوي هويتها في مواجهة الأعداء المحيطين بها. وهو ما أعطى لإسلام هذه البلاد طابعاً خاصاً، تميَّز بالانفتاح والروحانية وبصلةٍ وثيقة بجمالية المعمار، الآخذ من "سحر" الشرق الإسلامي ومن "صلابة" الغرب البيزنطي.

من نفس القسم الثقافي