الثقافي
قراءة في قصيدة القلب صحوُ
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 30 أوت 2019
قصيدة (القلب صحو ) عند الشاعرة سليمة مليزى هي عصفورة النار التي تُشعل في دمنا الحرائق وتلامِسُ مِنَّا منابع الحِسّ وتَخْمِشُ بمنقارها نخاع الأعظم، حين تحملنا على جناحيْن من لهبٍ إلى أقصى وأبعد مراقي الخيال، وتنبشُ بمخالبها الدقيقة في صخور اللغة بحثاً عن كنوزٍ وجواهر لم يسبقها إليها أحد.
سليمة مليزى هي مهرة الشعر الأصيلة التي تنطلق بنا في قفزاتٍ جامحة تنخلعُ لها قلوبنا أحياناً، وتُحتبسُ أنفاسنا خوفاً ودهشة ورَهباً، لكننا نظلُّ طوال الرحلة ـ مأسورين بخَدَرِ المغامرة ولذَّةِ الكَشْفِ، مأخوذين بسحْر المجهول الذي نرتاده، مبهورين برؤاه ومشاهده وكائناته الغريبة، مَسْلوبي الإرادة كصوفيّ أخذته سكرة الوجد وشفَّ وجدانه عن عالمٍ مليء بالرموز والإشارات والإيماءات الخاطفة مِثْلَ سماءٍ مُرَصَّعةٍ بالنجوم مُضَبَّبَةٍ بنُدفٍ من غيوم شفيفة.
لذا يَجيءُ شِعْرُها كشفاً جديداً مُتفرداً في جِدّتِهِ صادقاً في أصَالته، مُرَاوغاً في مُرَاودته للعقل والوجدان، يفِرُّ من فخاخنا كما تُفلتُ الغُزلانُ في خِفّة ورشاقة من قبضة الأسْر ، لكنه يُخلِّفُ في نفوسنا أثره العَميق وأسئلته المُعَلَّقة، فنعاود الرّكْضَ والطّرادَ دون كَلَلْ.
الفنََّ الأصيل كائنٌ حَيٌّ لا يَمْنَحُ نفسه بسهولة. وشعر سليمة مليزى كائن له ذاكرة وتاريخ، تشعرُ معه بالإمتاع والمؤانسة، لكنك لا تظفرُ بخباياه وأسراره قبل أن تعايشه وتنعقدُ بينكما أواصِرُ الألفة، ومع ذلك يبقى مُتأبيّاً على الاسْتيعابْ، مُسْتَعْصِياً على الترويض، لأنه قِطعةٌ مُقْتَطعَة من الحياة بكل تَدَفُّقها وعنفوانها وغموضها وسِحْرها الجميل.
تأمَّلْ معي هذه الدفقة الشعورية التي تصبُّ فيها شَوْقَ حبيبةٍ لمحبوبها ونزوعَها التّوّاقَ إلى اللِّقاء قصيدة “القلب صحو ” :القلب نبض \ والحب نوارس بحرية \تتناسل فى غربة الليل \فى سر كينونة هذا القدر \ القلب شتاءبارد \والمطر عيون تبصرنى \تغسل هذا الوجع
تأمَّلْ معي في اختياراتها لبعضِ مفرداتها: الوانة القزاحية \لتعشوشب البوادى \سرق من ضيائة القمر ألمْ يكن بوسْع الشاعرة أن تستبدلَ هذه اللفظة بمُفردةٍ أخرى تؤدي نفس المعنى مثل:.؟! كان بمقدورها بالطبع، إن كان جلُّ عنايتها توصيل المعنى للقارئ فقط، لكن شاعرتنا تطمحُ إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، إنها تسعى إلى توليد الصورة التي هي أبلغُ وأقدرُ على التعبير من ألف كلمة، واستحضار هذه الصورة في مخايلنا بكلِّ ما تنطوي عليه من إيحاءات ودلالات. فأنت حين تقول إن يمنحنى ربيعا صحوا \كى امحو الانين ، غير أن تقول إن هذا الجَمْعَ كان يتحلّقُ فلاناً أو بفلان. في قولك الأخير صيغة تشديد توحي بالحب الوردى
الصورة الدالَّة الموحية هي ـ إذن ـ وحدة المعمار والبناء في هذا الشعر وليسَ التقرير والمباشرة. فالشاعرة لا تريدُ أن تُصادرَ على خيالنا بمقولاتٍ ونتائجَ جاهزةٍ ومُعَدَّةٍ سلفاً للاستهلاك، بل هي تتوارى خلف صورها وتتركنا نحن لنتأمَّل المشهد بكل حواسّنا ونُعيدُ خلقه من ذواتنا ورؤانا وخلفياتنا من الخبرة والثقافة والتذوّق.
ما الفرق بين شاعرة كهذه تلتزمُ الحيادَ ظاهريّاً وتتركُ للمتلقي حُريّة التصور والتخيل والانفعال، وبين شاعرٍ آخر يُحيطنا عِلْماً بآخر ما توصّلَ إليه من خلالِ رِتْلٍ من العبارات التقريرية التي لا تقوم بأكثر من توصيل المعنى والرؤية إلى القارئ..؟!
الفرق جوهريٌّ وواضحٌ للعيان. ففي شعر سليمة مليزى يتحوّلُ القارئ من مجرّدِ متلقٍّ سلبيٍّ ومُستهلكٍ فقط للعمل الفنيّ إلى مُشاركٍ إيجابيٍّ وفَعّال في التجربة وفي صياغة هذا العمل الذي يتحوّلُ من خلال كل قراءةٍ إلى كَمٍّ لا نهائيٍّ من الأعمال بعدد قرّائه وعدد قراءاتهم له. من هنا يكتسبُ العمل الفنيّ قدرة أكبر على التعبير والتأثير في نفس القارئ وتوصيل الرسالة إليه.
لكن الشاعرة سليمة لا تقنعُ بذلك ولا تكتفي. فإذا كانت قد تخيَّرتْ الصورة الشعرية لتكون وحدة بناءٍ لقصيدتها، فالسؤال الذي نطرحه الآن على أنفسنا هو: أية صورة تقدمها لنا الشاعرة في شعرها..؟!
تأمّلْ معي ذلك السّيْل المنهمر من الصور وما تحمله من استعاراتٍ وكناياتٍ تثري بلاغتها ـ مع غيابٍ كاملٍ للتشبيه لأنه أقلّ الأساليب البلاغية تأثيراً : من قلب اعزل \الا من بقايا حب الحروف، مُذنبات الذكريات، مدارات القلب، ارتعاشات الكلمات، مداد الأحلام، أجنّة الآمال، أرحامُ اللقاءْ.
لاحظ المقابلة بين كُلٍّ من كى امحو الانين \بلألئ خضراء ، لاحظْ أيضاً صلة النسب والقرابة بين كلٍّ من: الارتعاشات، الأجنة، الأرحام. ثم أنظرْ كيفَ أنَّ الشاعرة لا تكتفي بهذه الدلالات الذهنية فتشكل منها الصور الأكثر بلاغةً وتأثيراً: فهي عتمة الحلمِ المحظور، ورقُّ الأقمار التي تُطلُّ وتراقصُ وجيب قلبها المُعَنّى بالشوق، وارتعاشات الكلمات التي تتحالقُ بمدارات القلب، وأجنة الآمال التي تتناسلُ بمداد الحلمِ وتتراقصُ شغفاً بأرحام اللقاء. مستويات متعدِّد من التشكيل الصُّوَريّ تُكوّن جزئيات المشهد. والصور هنا تعبيرية في غير تجريد، تركيبية في غير تعقيد، لأننا نُعايشُ بأنفسنا تكاثفها مع بعضها البعض واستواءها خلْقاً جديداً.
تأمَّلْ معي الآن هذا المقطع القصير ـ الذي يخطفُ البصر مثل ومضة برْقٍ ويُلْهبُ الحِسَّ مثل قصفة رعْد ـ من نفس القصيدة
متذوب فى نسيجها \انهار الجليد \وللقلب وجع اخر
نحن هنا أمام شاعرةٍ تكتب الشعرَ بمخَيّلة شاعرْ وريشة رسّامٍ وإزميل نَحّات أو مَثّالْ.
لاحظ ذلك الارتباط الحسّي بين النعاس والاختماربألوان قذحية \، فاختمار العجين أو الطمي هو تحوّلٌ إلى الطراوة واللدانة وانبعاث الغازات من قلب اعزل فيما يشبه خدر النعاس والتثاؤب، وبين الحُزن والبهار فللحزن في القلب وخز موجع وألم ممض وظلٌّ قاتمٌ مُقبض، وللبهار لونٌ غامق وطعمٌ لاذعٌ حَرّيفْ . صلة قرابةٍ لا يمكن إدراكها إلاَّ بالحَدْسِ والملامسة الحسّيّة لأنها تقع خارجَ نطاق العقل الواعي . ثم لاحظ مستويات تشكيل الصورة من التركيب بالاستعارة والكناية إلى التكثيف ثم التجسيد ثم استواء الخلق وانبثاق المعنى والدلالة. فعلى مستوى أبسط من مستويات البلاغة يكون للعينين لون النعاس أو الاختمار وتظل الصورة بليغة مع ذلك، لكن الشاعرة لا تقصدُ الإبهارَ أو البهرجة وإنما تطمحُ إلى خلق العالم الشعْريّ المتكامل بذاته، الممتلئ بالمعنى والإيحاء والدلالة. فهي تزاوج بين لون النعاس والاختمار معاً، ثم بين لون الحُزنِ والبهار معاً، ثم تضفرُ من كل هذا جديلة واحدة تتماوجُ فيها كل درجاتِ هذه الألوان وتتضافرُ تأثيراتها الحِسّيّة في آن واحد، فتفعل فعلها في مخايلنا ومداركنا.
الصورة هي وحدة بناء القصيدة ومن مجموعة الصور يتألف المشهد ومن تجاور المشاهد وتشابكها مع بعضها البعض يتشكل العالم الشعريّ وتولد القصيدة. لقد تأمّلْنا بعض الوقت في الصورة، فدَعونا الآن نُنْعم النظر قليلاً بعد ان سبرنا اغوار النفس البشرية بكل مكنوناتها واوجاعها واحلمها مع فأن الشاعرة تصطاد الاحرف من وراء التخوم وخلف الافق كى تسقطها علينا حبا ورمانسية ملائكية؟
الكاتب والناقد \حسن الحليلى