الثقافي

"مجمل تاريخ الأدب" واختزال الزمن والجغرافيا

من يتصفّح كتاب "المجمل في تاريخ الأدب العربي"، بنسخته الرقمية التي تحتفظ بها جامعة كولومبيا في نيويورك، الصادر في عام 1930 عن المطبعة الأميرية في القاهرة، يفاجأ للوهلة الأولى بهيئته الموسوعية، فهو يغطي زمنياً ما يقارب 2600 عام تقريباً، ويغطّي جغرافياً مساحة وطن عربي شاسع يمتد من العراق شرقاً إلى الأندلسغرباً.

غير أن هذه المفاجأة سرعان ما تتلاشى، وتترك مكانها للدهشة والاستغراب، حين يجد المتصفح بين يديه "موسوعة" تختزل كل هذا الزمن وهذه الجغرافية بين دفتي كتاب من 224 صفحة، وبسرد يفتقر إلى العمق أشبه بجريان سيول ضحضاحة، أي قليلة المياه، فوق رمال صحراء مترامية الأطراف.

أعدّت هذا الكتاب لجنة تتكوّن من شخصيات مشهورة في مصر آنذاك، على رأسها طه حسين وأحمد أمين وعلي الجارم، وستأخذه وزارة المعارف العمومية وتدرجه في منهاجها الدراسي لطلبة الثانوية العامة، على أن تتبع اللجنة نفسها هذا المؤلف "المجمل" بكتاب "مفصّل" من جزأين يجمع الثاني منهما "من متخير القول ومصطفى الكلام ما يمثل حياة الأدب العربي في مختلف العصور". أي أن كتبا كهذه، المجمل منها والمفصل، كانت أداة معرفية تعمل على تشكيل ونحت عقول شبان تلك الأيام. ولكن هل هو الاختزال وحده لما هو موسوعي بطبيعته ما يثير الدهشة والاستغراب؟منذ البداية، تقول اللجنة "عمدنا إلى سهولة في التعبير، والتبسط في البيان، لأننا رأينا أن الإيجاز في هذا العلم لا يلائم عقل الشاب الذي لم تكن له في دراسة الأدب سابقة.. فإن رأى المعلمون والطلبة في هذا الكتاب طولاً فلا يروعنّهم ذلك فإنه من اليسر والوضوح بحيث يستطيع الطالب أن يمعن النظر فيه، فإذا هو ملمٌ بما قصدنا إليه إلماماً يكفي لتثقيفه وتأديبه".

فإذا سلّم المتصفح بهذا الكلام، سيمضي في قراءة ملخصات تحت عناوين تبدأ بالعصر الجاهلي بكل نواحيه، شعراً ونثراً وتجارة، وتمر بمرحلة ظهور الإسلام والفتوح وانتشار الإسلام واللغة العربية، فالعصر الأموي، فالعباسي الأول، فالثاني، فالأندلسي، ثم تتوغل في ما جاء بعدهما من عصور، هي حسب تسمية اللجنة، العصر التركي، فالعثماني، وصولاً إلى ما تسميه "النهضة الحديثة من الحملة الفرنسية إلى الآن".

وهذا "الآن" لا يتجاوز في عرف اللجنة زمنياً أواخر القرن التاسع عشر، ومكانياً، مصر أو ما اصطلحت على تسميته باسم "عصر إسماعيل"، حفيد "موقظ الشرق"، محمد علي، كما ورد في سطور الكتاب، وعدد من الشعراء الأشهر، حسب اللجنة، يسقط من عدادهم حتى أحمد شوقي (1868- 1932) من دون سبب، إلا إذا كان السبب أنه كان حياً حين صدر الكتاب، أي لم يغب في غياهب "التاريخ" بعد، فلم يُجملوه في من أجملوا.

يمكن توجيه نقد متسامح لهذا النمط من تقديم "التاريخ" على شكل سيول ضحضاحة، لأن القصد كان تعليمياً لمرحلة دراسية لا تتجاوز الثانوية العامة، أي لعقول ما تزال في بدايات تلمسها لجدران دهاليز معرفة لم يحسن حتى جهابذتها تدبر أمرها على أسس علمية متينة في ثلاثينيات القرن الماضي، ولكن تثير الدهشة والاستغراب عدة أمور.ولنبدأ بالسطور الأولى في توصيف جزيرة العرب. تقول "الموسوعة": "في الجنوب الغربي من آسيا إقليم واسع الأرجاء.. تساهل الأقدمون فسمّوه "جزيرة العرب" مع أن الماء لم يحط به من جميع جهاته". حقيقة الأمر أن الأقدمين لم يكونوا متساهلين، بل كانوا على معرفة بما يتحدثون عنه.

من نفس القسم الثقافي