الثقافي

"المرايا المتسكّعة": التيه بعيداً عن المركز

موضوع راهن في المجتمع الثقافي الفرنسي يطرحه أحدث كتب المفكرة الفرنسية من أصول جزائرية، سلوى لوست بولبينة (1956)، "المرايا المتسكّعة أو تحرير المعرفة من الاستعمار (الفنون، الأدب، الفلسفة)"؛ يتمثّل في إشكالية تحرير ثقافات الجنوب، بمختلف مكوّناتها، من هيمنة المركزية الأوربية، ولا سيما الفرنسية.

تقول المؤلّفة في مقدّمة الكتاب الصادر عن "لي بريس دو رييل" العام الماضي: "لم أفرّق أبداً بين فلسفة الأدب والفنون. فسهولة الاختراق بين الحدود كبيرة، ليست في ذهني فحسب، بل في الواقع أيضاً. فالنظرية، ولا سيما الفلسفية، يمكن أن تشمل الشعري باعتباره حدساً وتوارداً وأسلوباً".

تنطلق بولبينة في الكتاب من هذا الإطار النظري حول تداخُل الحقول الذي ينبغي أن يشتغل عليه النقد المحرَّر من الاستعمار، لأن ظهور أجيال جديدة من الفنّانين والقاعات الفنية والمقتنين الفنيين من القارّة الأفريقية على الساحة الدولية للفنون ساهم في قلب الإبدال الاستعماري، ومكّن هذه الوجوه الفنية الجديدة والموهوبة من تأسيس خرائطية نقدية جديدة في مجالات الفنون العالمية.

هذه الخطوة الكبيرة التي خطتها فنون الجنوب في المجالَين الفني والاقتصادي سبقتها طفرةٌ في عالم الأدب ما بعد الاستعماري؛ حيث قطع الكتّاب المغاربيّون مع صفاء اللغة الفرنسية وسلاح المستعمِر، وفخّخوا لغةً استشراقية ومستبدّة وفجّروها، ليحصلوا على لغة تفكيكية قطعت مع تاريخ بأكمله من الاستلاب الثقافي والرمزي.

كاتب ياسين ومولود معمري ومولود فرعون ومحمد ديب وإدريس الشرايبي وعبد الكبير الخطيبي، أسماء نسّبت "مركزية" ألبير كامو وجان بول سارتر أو أندريه جيد. واستطاع الجيل الجديد، عن استحقاق، أن يكون الوريث الشرعي لهذه القطيعة المعرفية التي جاءت بعد نضال مرير ضد الاستعمار المادّي والرمزي.

يعتمد هذا الإرث النقدي، بحسب المؤلّفة، على حركية الهجرة، لكنها ليست هجرة نمطية في الزمان والمكان، بل هجرة علامات ومتخيّلات ومقاومات تقلب التوزيع الفيزيائي المعياري (شمال/ جنوب) الذي يحكم المركزيات المهيمنة.

تمتدح مقاربة بولبينة استراتيجية التيه désorientation؛ فهي تقارب المعرفة والفنون باعتبارها سيرورة دائمة: "أعتقد أنه يجب علينا تعلُّم التيه، وبالتالي الابتعاد عن المركز - في ذواتنا ومع ذواتنا - لنصل بشكل صحيح إلى المناطق الإنسانية التي اعتبرها - الأوروبيون - طويلاً مناطق "متخلفة"".

وتحلّل الكاتبة مفهوم التيه انطلاقاً من الفيلسوف الألماني كانط الذي شدّد على العلاقة الوثيقة بين الجسد والفضاء، ما دام التعرُّف على الجهات الأربع يَفترض التمييز بين اليسار واليمين. كما أن هذا المعطى الفيزيائي يرتبط عنده بالذاكرة. لذلك فتغيير اليمين واليسار وتشويش الذاكرة يفكّك مركزية الفكر ويدفع بنا في مقاربة إبداعية تعيد صياغة الأسئلة من زاوية الهامش الفضائي.

"يرتبط التوجيه بتقويم (مستقيم - أخرق)، وباستعمار الفضاء الذي يخضع له رمزياً: المستقيم هو الحداثي والأخرق هو التقليدي، المستقيم هو الكوني والأخرق هو الخاص...". تقابل المفكرة هاتين الصفتين لتدقيق الهوّة التي تُنشئها المركزية الغربية بين أوروبا وأفريقيا، وتُركّز على أن تفكيك العلاقة التي تجمع بين التوجيه والتيه وبين السمّ والدواء والأسفل والأعلى هو المدخل الصحيح لإعادة قراءة الهيمنة الغربية المعرفية والفنية قراءةً فاعلة.

تنتقل صاحبة كتاب "أفريقيا وأشباحها" إلى مفهوم آخر لتحرير الفنون من الاستعمار باستعمال اصطلاح "ملائكة الغريب" (اقتباس من إدغار آلن بو). فتنظر الكاتبة إلى المبدعين والفنّانين والكتّاب القادمين من ثقافات أخرى كملائكة الغريب المستعملة للغة غريبة وشبحية تفكّك منطق الجهات الأربع الذي تتأسّس عليه النظرة الأوروبية.

من نفس القسم الثقافي