الثقافي
"فلننشرها في ديارهم": دعوة للسخرية السوداء
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 20 أوت 2019
ما الشيء الذي يجب أن ننتظره من سخرية سوداء يمكن أن تكون شرسة وغير مجدية، أو حتى غبية، عندما يكون الهدف الضحية وليس الجلاد، كما حدث مؤخّراً في مسلسل سوري يسخر من ضحايا الهجمات الكيماوية؟ وهل يمكن لمثل هذا التزييف أن يجد موطئ قدم له حتى بين أكثر المغالين في الدفاع عن الاستبداد والمستبدّين؟ لا شك في أن الخيارات تتجاوز أيَّ انحلال مهما كانت شدته، إلا أنه لا مفر من الاعتراف بأن التكرار له شأنه، وإلا لماذا يفجر المسلمون أنفسهم؟ لأنهم لا يجيدون الطيران. نكتة سمجة، أليس كذلك؟ كلّا، إنما هي رؤية بحاجة إلى إعادة نظر.
وعلى الرغم من أن السخرية السوداء يمكن أن تكون غاية في حد ذاتها، ولها هدف وحيد هو التحفيز على الضحك من خلال انتهاك القواعد غير المكتوبة للذوق السليم، فقد تم استخدامها أيضاً في المجالات الأدبية وغيرها من وسائل الميديا بقصد دفع الأشخاص للتفكير بجدية في الأحداث أو الموضوعات التي تُعتبر عموماً شديدة الخطورة أو حتى من المحرمات، مثل الحروب والموت والعنف والدين والمرض والجنس والتنوع الثقافي وجرائم القتل وهلمّ جرّا.
واللجوء إلى السخرية السوداء كتعبير ضروري يُقصَد منه إبراز حالات معينة من الظلم الاجتماعي والأحكام المسبقة يتطلب فهم بعض الرموز الاجتماعية والسياسية والثقافية وتفكيكها، ومن ثم وضعها في سياق قادر ليس على إثارة الضحك فحسب، بل الوقوف عند المغزى والبحث عن مواطن الخلل.
بهذا الصدد، هناك اختلافات في التعبير يمكن من خلالها إيجاد علاقات بين روح الدعابة والأحداث الراهنة، وهو ما نجده في كتاب جماعي بعنوان "فلننشرها في ديارهم"، صدر مؤخراً عن دار "أنسامبل" في روما، جمع نصوصاً لكتّاب مهاجرين بالإيطالية، وفيه نلمس محاولة لتحليل العلاقة بين روح السخرية والهجرة، باعتبارهما طريقاً شائعاً لتواصل متعدّد الأوجه في تاريخ البشرية.
قام بوضع الخطوط الأساسية لهذا المشروع، أي استخدام السخرية السوداء للوقوف في وجه هجمات الشعبويين والفاشيين والعنصريين ضد الأجانب وتحميلهم وزر كل أزماتهم الاقتصادية والسياسية، مثقفان إيطاليان، هما رفائيل تاديّو وماتيو أندريوني. الأول هو ناقد ومختص في أدب المهاجرين في إيطاليا منذ بداياته في عام 1989، وهو أيضاً رئيس جمعية "لا تندا" (الخيمة) التي تُعنى بتدريس اللغة الإيطالية للمهاجرين. أما أندريوني فهو كاتب ومخرج مسرحي، كان من أوائل الذين قاموا بتجارب مسرحية مع ممثلين مهاجرين من مختلف الجنسيات.
في مقدّمته الطويلة للكتاب، يقول جوفان أنطونيو فارابوسكو بعدم إمكان أن نجزّئ الإنسانية، فبحسبه "نحن إنسانيون عندما نتضامن أو لا نتضامن مع اللاجئين القادمين من البحر، ونحن أيضاً لسنا سيئين إنما طيبون بطريقة مختلفة!".
من جهة أخرى يكتب: "من يهاجر يذهب نحو المجهول. ينطلق من أرضه ولا يعرف أين يمكن أن ينتهي به المطاف. إنه يترك كل شيء وليس ثمة ضمان بأنه سيجد أي شيء. لكن إذا كان هذا العالم - عالم المهاجرين واللاجئين تحديداً - غالباً ما يكون قاسياً ومحاطاً بهالة مأساوية ذات وقع شديد، فهل يمكن للسخرية السوداء أن تخفّف من وطأته؟".
ويحيلنا هذا الأمر إلى أنه من الممكن أيضاً إجراء دراسة منهجية لحسّ السخرية كأداة تسمح لنا بإبراز وإعادة بناء، على الأقل جزئياً، إمكانيات أخرى لفهم الحاضر. ربما هذا المنهج يبدو محدوداً، وتعيقه بعض القيود، لكنه في الوقت نفسه يتيح المجال لدراسة أعمق وأوسع للمجتمعات البشرية. والهدف من هذه النصوص التي تعكس دور السخرية في مجال الاندماج الاجتماعي هو اقتراح طريقة جديدة لفهم حقائق الماضي والحاضر، وإعادة بناء الروابط بين الأفراد بغض النظر عن منشئهم وجنسياتهم، في فضاء من الشراكة المتبادلة.