الثقافي

"فلنحرر الفنون!": ترسبات استعمارية في الداخل

يعاني عالم الفنون في فرنسا من العنصرية، ويعود ذلك إلى إرث الإمبراطورية الفرنسية ولها تاريخ طويل من الاستعمار واستعباد البلدان الجنوبية. في السنوات الأخيرة، صدرت كتبٌ عديدة تنتمي إلى الفكر المضاد للاستعمار، وتحاول أن تفكك التمثّلات والسلوكات والممارسات التمييزية التي يعيشها الكتّاب والمسرحيون والممثلون والمخرجون ومديرو المؤسسات الثقافية ذوو الأصول المغاربية والأفريقية، نذكر منها كتاب "سوداء ليست مهنتي" لمجموعة من الفنانات والممثلات السوداوات والخلاسيات اللواتي فضحن العنصرية المتجذرة في الوسط السينمائي والمسرحي الفرنسي، وكتاب سلوى بولبينة "المرايا المتشرّدة أو التحرر من استعمار المعارف".

ضمن هذا السياق، صدر كتاب "فلنحرر الفنون!" تحت إشراف فرنسواز فرجيس (لارينيون) وجيرتي دامبوري (غوادلوب) وليلى كوكيرمان (جزر الأنتيل) عن منشورات "لارش"، وهو كتاب ساهم فيه خمسة عشر مبدعاً ومبدعة من مختلف المجالات كالسينما والمسرح والفنون التشكيلية منهم: الفنان الجزائري الفرنسي قادر عطية، والممثل والمخرج المسرحي الغوادلوبي جليل لوكلير، والمخرجة أماندين غاي، والراقصة والرسامة المارتينيكية ساندرا سانت روز، والروائية والمخرجة إيفا دومبا، والبروكينابي حسن كاسي كوياتي، والممثل المسرحي أتيوم بالمارتينيك (...) كما نجد وجوهاً شابة تنتمي لنفس المجالات أو إلى أخرى حديثة مثل فنون الشارع والراب ككريمة الخراز، ودي دو كابال، وأولفييه ماربوف، ومريم ضو، وساندرا سانت روز فانشين.

هكذا فالكتاب ثمرة حركية معرفية ومدنية جديدة في فرنسا، جاء نتيجة تفكير جماعي ونقدي وسياسي من الأقليات التي تعاني التهميش والاحتقار من بنيات ذهنية استعمارية ما زال لها تأثير كبير في المؤسسات العمومية والثقافية الفرنسية. وهذا النقد قادته جمعية "فلنحرر الفنون" التي أسستها نخبة من الفنانين والمفكرين والفنانين الذين يشتغلون في مجال الثقافة والفن، وهم المساهمون الرئيسيون في هذا الكتاب.

بيد أن هذا التفكير ليس معزولاً في فرنسا اليوم، بل يساهم فيه أبرز المبدعين المنتمين إلى أجيال الهجرة وإلى المثقفين الفرنسيين المدافعين عن فكر نقدي لتفكيك التاريخ الإمبراطوري لبلادهم. نقرأ في مقدمة الكتاب أن من أهداف جمعية "فلنحرر الفنون!": "تشخيص أسباب الغياب والنسيان والإقصاء في تمثل المبدعين ذوي الأصول المغاربية والأفريقية على مستوى أشكال السرد التاريخي والتكوين في المؤسسات الفنية والثقافية والسينما والمسرح والرقص والفنون الحية والمتاحف. فقد لاحظنا أن هذه الفئة نجدها غالباً في مهام الحراسة والأمن الخاص ومهن التنظيف، وأحياناً الوظائف التقنية، بينما تستبعد من مناصب المسؤولية والإدارة والإخراج والبرمجة الثقافية".

وتنطلق مساهمة الفنانين والكتّاب في هذا العمل من ثلاثة أسئلة محورية طُرحت عليهم هي: "كيف يتصوّرون الممارسة المضادة للاستعمار من مجالاتهم الفنية؟ هل يعتبرون أنفسهم عرضة للميز باعتبار أصولهم المغاربية والأفريقية؟ ثم هل يرون أن مقاربتهم المضادة للاستعمار يمكن أن تغيّر المركزية "الكونية" التي تتحكم في الثقافة الفرنسية؟

تتعدد الأجوبة على هذه الأسئلة لاعتبارات عدة منها خصوصية كل مجال فني يعمل فيه المتدخل. فمثلاً يحلّل قادر عطية المسألة انطلاقاً من المكوّن التاريخي والمعرفي، فيكتب: "يلعب الاستعمار دوراً رئيساً في هذه الوضعية حيث تهيمن تاريخياً اللاعدالة الثقافية والاقتصادية، إذ رغم استقلال المستعمرات القديمة، فإن القوة الاستعمارية ما زالت مستمرة فيها بنوعين من التحكم: التحكم الصناعي والتكنولوجي (الإسمنت المسلح والزجاج والمعادن...).

وفي هذا السياق، فرضت على البلدان المستقلة تقنيات قضت تماماً على التقنيات التقليدية ودمرت الزوايا، في حالة الجزائر مثلاً، التي كانت تحافظ على هذه التقاليد بدعوى أنها كانت حيّزاً مميزاً للمقاومة". ومن هذه الزاوية يعتقد هذا الفنان التشكيلي أن تفكيك الاستعمار يجب أن ينصبّ على تفكيك بنيات المتخيّل لابتكار رؤية جديدة للعالم انطلاقاً من ثقافاتنا. فالفرنسيون من أصول أفريقية يجدون مكانهم بنيوياً في الرياضة والترفيه، بينما يُستبعدون دائماً حينما يتعلق الأمر بالأدب والفكر والفنون.

أما مغنية الأوبرا، دايا دوريمل، والتي تنتمي لثلاث مجموعات موسيقية بارزة في فرنسا هي: "المجموعة المهنية لإذاعة فرنسا" و"الجوق الوطني الفرنسي" و"الأوركسترا الفيلهارمونية"، فتشدّد على الغياب الكبير للفرنسيين من أصول مغاربية وأفريقية في الغناء الأوبرالي وقيادة الأوركسترات، إذ يكرّس المتخيل الغربي فكرة أن هذه الوظائف من اختصاص الفرنسيين البيض، لأن السود والمغاربيين ينتمون ذهنياً إلى الأهالي البدائيين الذين لم يرقَ ذوقهم بعد إلى مستوى الموسيقى الكلاسيكية.

من نفس القسم الثقافي