الثقافي

عزمي بشارة.. الحفر في الذاكرة "السلفية"

قد يُولّد كتاب المفكر العربي عزمي بشارة "في الإجابة عن سؤال: ما السلفية؟" نوعاً من المفاجأة لدى بعض المتتبعين لكتابات صاحب "المجتمع المدني" حول الاهتمام "الجديد" لبشارة بثيمة السلفية التي تتناولها في العادة كتابات تكاد تنحصر من مجال العلوم الشرعية والتاريخية وما يرتبط بها من تقاطعات تخصّصية.

غير أن مُطالعة الطرح المعرفي الذي يقدمه هذا الكتاب تجعل القارئ يتفطن إلى مدى أهمية وبل وضرورة تناول الثيمة السلفية بالكيفية البينتخصصية (pluridisciplinaire) التي انتهجها الكاتب كمسوّغ للإجابة عن التساؤل المفتوح الذي اختاره عنواناً لكتابه حول مفهوم حافل بـ"الاتجاهات المتعددة" يحيل بدوره إلى ظاهرة "حديثة" تضرب جذورها عميقاً في ماضي المنطقة العربية والإسلامية.

إضافة إلى هذه الجدوى التوليفية التي يتيحها الكتاب، سرعان ما يتبدد هذا الإحساس بالمفاجأة حينما نستذكر أن الإصدار ما قبل الأخير لبشارة اهتم أيضاً عبر توليفة من مداخل معرفية متنوّعة بالتعاطي مع ظاهرة مشابهة، وهي الطائفية وذلك في كتابه "الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة"، الذي لا يحيل عنوانه إلى مجموعة مفاهيم حديثة-قديمة ومركبة إلى درجة التعقد فحسب، بل يشير بوضوح إلى ما يجمعه مع الإصدار الجديد لبشارة وهو محاولة اقتفاء أثر التطوّر الفكري لمتخيلات أيديولوجية محددة، مثل الطائفية والسلفية، وذلك عبر التعاطي مع سياقاتها التاريخية والفكرية والمجتمعية.

من هنا، نخمّن أنه مشروع فكري يسعى صاحبه ضمنه إلى معالجة ما يمكن أن نسميه بمتلازمة "الماضي الحاضر"، التي لا يمكننا التقليل من سطوتها المجتمعية الراهنة كما برز ذلك بجلاء في كلا الكتابين ولا سيما في كتابه الأخير حول السلفية، موضوع هذه المراجعة الموجزة.

يُعدّ مفهوم السلفية مدخلاً مناسباً للتعاطي مع جزء مهم من هذه المتخيلات الأيديولوجية التي يتمظهر فيها الماضي الحاضر أو المُحضرن، إن صح التعبير، بمعنى أنه ماض متخيل يتم استحضاره وفق وسائط معينة ولأغراض محددة، لهذا لا نجد في هذا الكتاب استكانة لذلك التوصيف النمطي لمصطلح السلفية من كونه "يحيل على منظومة أفكار متجانسة وصلدة متماسكة" والمتمثلة في "العودة إلى الكتاب والسنة ونبذ البدع والمحدثات"، وهو تبسيط لظاهرة أعقد بكثير من اختزالية هذا التوصيف الذي يظهر أيضاً رائجاً في "السوق البحثية لدراسات الإسلام"، حسب تعبير الكاتب، والتي تحصر السلفية بوصفها "نمط تدين متزمت"، حتى مكانياً وذلك ضمن جغرافية مغلقة، الشيء الذي ينتقده بشارة بقوله إن "هذا النمط ليس خاصاً بالجزيرة العربية، فهو يشمل العالم الشيعي أيضاً"، مشدداً في الوقت ذاته على أن الأمر يتعلق بسلفيات وليس بسلفية واحدة ووحيدة.

في هذا السياق تحديداً، يوجّه المؤلف نقده للتعامل الاستشراقي مع تشكل الحركات السلفية وأفولها، والذي ما فتئ يعتبرها مجرد "أصوليات تكرّر ذاتها" بوصفها "تقليداً في التاريخ الإسلامي"، وبخلاف هذا التنميط الاستشراقي، يعتبر بشارة أن هذه الحركات "تنشأ في الحداثة"، لذا فهي ليست "مجرّد نص أصولي يتكرر منذ ابن حنبل أو ابن تيمية أو ابن عبد الوهاب وغيرهم".

ومن هنا، يعرّف بشارة السلفية بكونها "حركات حديثة بمعنى أنها حركات أيديولوجية نشأت في العالم الحديث بآليات التنظيم الحديثة ونتيجة ضغوط العالم الحديث نفسه"، وهذا ينطبق في نظره على "الحركات السلفية كافة، إصلاحية كانت أم جهادية أو غير ذلك".

لكن، لأجل ماذا هذا الاستحضار البنائي لماض متخيل؟ هنا نرجع مجدداً للطرح الهالفاكسي، الذي يرى في بناء الهوية والحفاظ عليها وضمان سيرورتها، وظيفة أي استذكار منظوري لماض منتقى. وفي سياق الاستذكار "السلفي" لسلف متخيل، يتحدث بشارة بدوره عن اليوتوبيا السلفية، وما يميزها كونها يوتوبيا ماضوية وليست مستقبلية "تسعى لإعادة إنتاج الانسجام العضوي في الجماعة". هي إذاً يوتوبيا تقهقرية "لا تكتفي بالانعزال وإقامة مجتمع الأتقياء الخاص، بل تتصوّر أن لديها برنامجاً خلاصياً للمجتمع برمته".

من نفس القسم الثقافي