الثقافي

فرانكا مانشينيللي: أبعد من ماهية الشعر والمجاز

في ثالث مجموعاتها الشعرية "ليبرتّو دي ترانزيتو" (2018)، أو "كُتَيِّب العبور"، وكما يتّضح منذ النص الأوّل، تحوم الإيطالية فرانكا مانشينيللي حول ثيمة السفر: "ليس الأمر في حَزم الأمتعة وحده. إنه في التَهَندُم والتَزَيُّن. في وُلوج المَقَاس المضبوط للعِقَاب. كل الأفعال مُصَوّبَة إلى نَفْس الغاية. مُنْتَعِلين أحذيةً لم تَطأ الأرض، سننام في مركز النَظْرَة، كالأطفال حديثي الولادة".

لكن سَفَر مانشينيللي ليس مُجرّد انتقال من مكان إلى آخر، ولا حتى من حالة نفسية، اجتماعية، فلسفية إلى أخرى. إنه - وبالأخص - مواجهة شُجاعة وبالغة التعقيد مع المساحة الفارغة التي يعبرها الإنسان دائماً في اتصاله بالآخر، سواء البشر أو الطبيعة أو - الأهم - اللغة نفسها، بوصفها المادة الخام للوعي في حدود إمكانية التعبير عنه، إضافةً إلى وسيلة التعامل مع الواقع ومن ثَمّ القناة التي تتّصل الأنا من خلالها بالآخر.

السفر هو الفراغ الذي تنطوي عليه هذه القناة، حيث تتحرّك العلاقات البشرية بشتّى أنواعها وأشكالها جيئةً وذهاباً، وربما تتصادم أو تسقط أو تُضطَر إلى التوقّف. سَفَر مانشينيللي هو الممر الذي يُضمِر الرغبة والرعب بل ومعنى الوجود. إنه النَفَس غير المسموع، الفجوة التي يسكنها السر.وخلال أول كتاب يَصدر لـ مانشينيللي بالإنكليزية - بترجمة جون تايلور، في طبعة مزدوجة اللغة عن دار "بيتر أولياندر بريس" في نيويورك - يتراكم ذلك "الموتيف" المرن عبر ثلاثة وثلاثين نصاً "قصصياً" بالغ القِصَر والكثافة بلا عنوان.

تختلف هذه النصوص عن مجموعتَي مانشينيللي السابقتين "التاج الصغير" (2007) و"عجين الأم" (2013) في كونها نثراً خالِصاً، الأمر الذي يتوقّف المترجم عنده في مُقدّمته: "ما الذي يعنيه ذلك التحوّل في الشكل؟ زيادة طفيفة في الحكي، وإن لم يكن إلّا بأكثر معاني الكلمة تَشَذُّراً".

يضيف: "قد تُحدّد مانشينيللي إطاراً للأحداث (عربة قطار)، وقد توحي بأنها مسافرة بمفردها (دون أن أعرف ما الذي يُحضِرُني إليكَ)، أو تَذكُر نَظرة عبر الشبّاك تُتيح… لمحة مُتَخَيَّلة أو حتى رؤية مُطَوّلة لـ(الأنت) الذي يبدو مُرَكّباً على الزجاج وكذلك على المنظر الطبيعي الذي يمر مسرعاً (وكأنه - ذلك الأنت- يجلس قبالتها بالفعل)، لكن قدرة هذه النصوص على أن تتلبّس القارئ لا تَكمُن في (الحبكة) التي تنطوي عليها كقصص بقدر ما توحي به: في هذه الحالة، عاطفة دونما تُذكَر تجعل غياب الآخر حاضراً إلى هذا الحد وتُمَكّن الراوية، كما تقول في خاتمة النص، من أن (أطالع وجهك حتى يأتي الضوء)".

هكذا، من خلال تلك الروايات الخاطفة تتحوّل الفجوة الفاصلة بيني وبينك إلى مَبْحَث جمالي قبل أن يكون فِكريّاً. لا يخلو نصّ واحد من إشارة ولو مُضغَمَة إلى مَسَار ما، أو سِكّة: إن لم يكن "مترو" مُسرِعاً يُجبِر أيدي الجالسين في المحطّة على أن "تَسُد الفجوة الآخذة في الاتساع بأنْ تَقبِض على شيء، والعيون مُغمَضَة"؛ فهو جريان المياه من البئر إلى الجذور تحت قدمي أبٍ يروي حديقته في المساء، أو كما في آخِر نصوص المجموعة هو انبثاق البراعم عُنوة من لحاء الشجر: "يتشقّق اللحاء، لم يعد يقاوم. بعينين مغمضتين، تواصل أنت الصراع… ابق نائماً. إن أوراق الشجر تتسامر في ما بينها كالإخوة. من قلب الشجرة إلى رأسها، الأوراق تؤلّف لك جملة تقولها".

لكن الأهم هو أن القراءة، فضلاً عن ما تُحقّقه من مُتعة أو رغماً عن متعتها، تؤكّد وجود الفجوة وصعوبة - استحالة؟ - اجتيازها: "رابِضاً على حافة السطح، كان القنّاص ينتظر. كان يعلم أننا سنلتقي في هذه النقطة، حيث يتقاطَع الفضاء مع الزمن، حيث ينفتح بؤبؤ عينه. حين رآنا نتناقل الكأس نفسها في ما بيننا، أخذنا بعيداً عن الآخرين… ". الأمر الذي يطرح أسئلة أوسع وأعمق عن ماهيّة الشِعر، والمجاز.

من نفس القسم الثقافي