الثقافي
روكي... ممثل جزائري قصير القامة يصنع البسمة
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 23 مارس 2019
يُشبّه الجزائريّون، من باب الدلع، المولود الجديد بـ"الكفّ" كناية عن صغر حجمه. غير أنّ رشدي بن جدّو وُلد في قرية أولاد ثاير التابعة لولاية برج بوعريريج شرق الجزائر، في حجم الكفّ فعلاً.
جعلت الروح الإيجابيّة، التي تميّز البيئة الزراعية، تعتبره بركة حلّت عليها من السّماء، وتعامله على ذلك الأساس منذ يومه الأوّل، متمنّية ألّا يتجاوز الأمر قصر القامة إلى مشاكل في النطق والحركة، وقد تحقّقت الأمنية حين نطق رشدي أولى كلماته وخطى أولى خطواته.
ما بين اليوم الذي فتح فيه بن جدّو عينيه في عام 1991، واليوم الذي دخل فيه المدرسة عام 1998، كانت الجزائر قد عرفت الخوف في ظل العنف والإرهاب. وقد تعب رشدي بسبب تحذيرات أهله حتّى يتفادى الخروج من البيت.
يقول: "كانت تلك التحذيرات تُثمر العكس تماماً في داخلي، فأسعى إلى اكتشاف محيطي، بما فيه الناس الذين قد يقتلونني. وهي الخلفية الأولى لروح الإصرار التي تميّزني، فكانوا في كلّ مرّة يجدونني في زاوية من الزوايا التي كانت تخيف حتّى الكبار".
يتساءل: "هل قصر قامتي هو ما دفعني منذ صغري إلى أن أتصرّف على أنني كبير، حتّى أرغم الناس على أن ينسوا أنني قصير؟ ما أذكره أنّني لم أشعر بالعقدة يوماً، وما زلت كذلك حتّى اليوم. علماً أن طولي لا يتجاوز 132 سنتيمتراً".
يتدارك: "لنقل إنّني حوّلت العقدة إلى منصّة للتحدّي، وفرض نفسي في الأمور التي تصعب على غيري، إذ أضطرّهم في كلّ مرّة إلى أن ينسوا قصري ويركّزوا على همّتي. الناس في النهاية يتبنّون الصورة التي نفرضها عليهم فرضاً".
يواصل بن جدّو: "اخترت إعطاء الرياضيات اهتماماً خاصاً، بعدما أدركت أنّ الجزائريين يربطون ذكاء الشخص بمدى نبوغه فيها. قرّرت التوغل في هذا العلم العظيم، وأبهر محيطي، حتّى احتللت المرتبة الثانية على مستوى دفعتي في الجزائر كلّها. كنت أقول إنّني الشخص الذّي لا يتعب الناس في عدّ سنتيمتراته، لكن يجب أن يتعب في التمكّن من الأرقام ليصبح رقماً صعباً. وفي مرحلة ما، باتت علاقتي بالرياضيات مؤطّرة بالعشق لا بالتحدّي، أي أنّني روّضت نفسي على أن أتجاوز مقاماً كنت أجتهد فيه لأقنع الآخرين بي إلى مقام أقنع فيه نفسي".
في هذا الإطار، يتحدث رشدي بن جدّو عن تأخّر البيئة العربيّة في مجال التّعامل مع الأشخاص ذوي الإعاقة بعيداً عمّا تقترحه العلوم الحديثة من وسائل ناجعة في برمجتهم على الأمل عوضاً عن اليأس، وروح المبادرة والتثبيط والإقدام عوضاً عن التردّد، والنظر إلى أنفسهم على أنّهم أسوياء. يقول: "ليس عدلاً أن نصف السارق والكاذب والغشّاش والمتحايل والانتهازيّ بالسويّ، لأنّه يتمتّع بأعضاء سليمة وقامة مديدة، بينما نسمّي من يفتقد إلى ذلك من ذوي الإعاقة، حتّى وإن كان مثاليّاً في سلوكه وتفكيره".
لا يُنكر رشدي بن جدّو أنّه تعرّض، على مدار سنواته الثّماني والعشرين، إلى تنمّر بسبب قصر قامته، لكنّه حوّلها جميعها لصالحه، فأصبح معظم من عيّروه أصدقاء حقيقيين. يشرح: "في لحظات ما لا يجد بعض الناس حلولاً غير اللجوء إلى تعييرنا بما لا دخل لنا فيه، أي أجسادنا، حتّى يُغطّوا على ما لنا دخل فيه، أي أفكارنا ومضموننا الروحي والسلوكي، من باب ضعفهم، فإذا وجدونا منسجمين مع أنفسنا تحوّل حقدهم إلى إعجاب، ووجدوا أنفسهم مرغمين على مراجعة مواقفهم معنا".
التحق بن جدو بالمعهد الوطني المتخصّص في التكوين المهني في عام 2014، بالتوازي مع التحضير لشهادة البكالوريا الأهليّة العامّة بصفة حرّة. ولمّا حصل عليها في عام 2015، أرجأ الالتحاق بالجامعة عامين إلى أن حصل على شهادة في الآلية والضبط من معهد التكوين في عام 2017، ثمّ التحق بكلية الحقوق. ويبرّر هذا الخيار بالقول إنّ "تعرّضنا للظّلم في الحياة، إمّا يجعلنا نعوّض ذلك بالحقد على المحيط والسعي إلى أن نظلمه بدورنا، وإمّا بأن نجعل أنفسنا في خدمته. أما أنا، فقد اخترت الخيار الثاني بعفوية تامّة".
يسعى رشدي بن جدّو إلى أن يكون محامياً في المستقبل "ليس من باب التباهي، بل من باب التماهي"، أي معايشة المجتمع ومرافقة مظلوميه بهدف إنصافهم. يقول: "لا يكفي أن نكره ظلم الظالمين واعتداء المعتدين وانتهازيّة الانتهازيين وجشع الجشعين، بل ينبغي أن نتجاوز ذلك إلى أن نضع أنفسنا في خدمة الضحايا حتى نعيد إليهم حقوقهم، فلا يشعرون بالضعف في مقابل شعور الطرف الآخر بالقوّة". لكن ثمّة محامون يتولّون الدفاع عن قضايا تنم عن ظلم، فأين هم من نبل المهمّة؟ يجيب: "أحلم بعالم لا يجد فيه الظالم من يدافع عنه".
وإذا أردتَ أن ينقشع العبوس والوجوم في مجلس ما، عليك أن تدفع ببن جدّو بينهم. الفكاهة تجري في دمه، "وقد امتلكت ذلك من خلال ضحكي على الحياة نفسها، حين لمست جورها في تقسيم المسرّات والأحزان بين الناس. لا أؤمن بقدرة فكاهيّ على إضحاك غيره إذا لم يصل إلى مرحلة يضحك فيها على الدنيا". من هنا بات "روكي"، وهو اسمه الفنّي، ملح المجالس في البيت والحومة والجامعة والفضاءات الثقافية والفنّية. يسأل: "أليس رائعاً أن تجعل الناس يضحكون بك بدلاً من ضحكهم عليك؟".
التحق روكي بالمسرح في عام 2003، وكوّن برفقة أصدقاء له فرقة سمّوها "صنّاع البسمة". وكانت الحدائق والمستشفيات وروضات الأطفال هي المجال الحيويّ الذي يقدّمون فيه عروضهم الموجّهة للأطفال بالدرجة الأولى، فيعودون منها ممتلئين بإحساس يقول عنه روكي إنّه تعويض عن كلّ أنواع الحرمان التي عرفها في حياته. يقول: "أسمي ما نتعلّمه من الفنّ، الصدق مع أنفسنا، والاستمتاع بإمتاع الآخرين. وهذا ما تركّز عليه الورشة التكوينية التي التحقت بها مؤخّراً في مدينة برج بوعريريج، ويشرف عليها المسرحي حليم زدّام".
الوكالات