الثقافي

يزيد خلوفي.. طبوغرافيا الحرف والفراغ

في معرضه الأخير عاد إلى تقنياتهم الكتابية، ليقف عند مجهولية مبدعيها

حروفيّون أندلسيّون مجهولون نسي تاريخ الفن الإسلامي أسماءهم، وظلّت أعمالهم تُزيّن القصور والمساجد والأضرحة، يعود التشكيلي الجزائري يزيد خلوفي (1963)، في معرضه الذي اختتم أمس أول في "غاليري سين آر" بالجزائر العاصمة، إلى تقنياتهم الكتابية، ليقف عند مجهولية مبدعيها.

شُغف الفنّان بالحروف منذ طفولته، هو الذي نشأ في أجواء صوفية بمنطقة حمّام بوغرارة قرب تلمسان في الغرب الجزائري. وكثيراً ما حاول فهم المعنى الذي يسكن تلك النقوش الكتابية الأندلسية المعلقة بكثافةٍ على جدران المساجد والأضرحة. وعن ذلك يقول، في حديثه إلى "العربي الجديد": "كانت ولا تزال تشدّني إليها شدّاً عجيباً. حاولت وأحاول إنتاجها وبالأسلوب نفسه الذي اشتغل عليه حروفيّو الأندلس الذين تبقى أسماؤهم ممحيةً؛ إذ تُنسَب أعمالهم إلى أسماء الخلفاء والأمراء".

بخمسة أعمال من بين عشرين يضمّها المعرض، الذي يحمل عنوان "أحبار الروح"، يُحيّي خلوفي رفاقه/ أسلافه الأندلسيّين. يوضّح بالقول إنه اشتغل في مجموعةٍ أطلق عليها "حروف الصمت والفراغ" على فلسفة الفراغ كقيمةٍ جمالية في هندسة العمل الفني الإسلامي. قدّم التشكيلي خمس قطع نحتية هي: "الأسماء والكلمات"، و"تشيّؤ فتهيّؤ"، و"كشف المستور"، و"شاهد ومشهود"، و"نفس"، وهي عناوين يصفها بالتكثيفية "بحكم أنني أشتغل على الترميز، مستلهماً في ذلك بعض المعارف الصوفية، أو التي كانت لها علاقة بالتصوُّف الأندلسي، وبالتالي المغاربي".

في أحد الأعمال، نقرأ عبارةً مقتبسةً من كتاب "الإمتاع والمؤانسة" للتوحيدي: "ولمّا عدتُ إليه في مجلس آخر، قال: سمعت صياحك اليوم في الدار مع ابن العميد". نسأله عن سبب اختيارها بالذات، فيجيب: "أعملُ على الكتل النصية المنبعثة من التكوينات البصرية للمخطوطة العربية القديمة. لا يهمّني المحتوى بحد ذاته بقدر ما يهمّني التكوين البصري المشكّل للكتل النصية".

ويضيف: "ثمّة ضلوع شخصي وتقاسم لهمّ حمله هذا الفيلسوف الذي عانى في حياته من عدم فهم معاصريه له. لقد عاش في فترة تشبه إلى حدٍّ ما، ما نعيشه اليوم في علاقتنا الآنية مع الدين والأشياء. أحرقَ مجمل كتبه كتعبير عن تمرّده الفكري ورفضه كلَّ فصل أو انفصام بين الفكر والسلوك، أو بين العمل الفكري والمسار الأخلاقي. التوحيدي، حسب رأيي، يمثّل "الإبيستمه" إحدى اللحظات الأساسية والحاسمة في تاريخ الفكر العربي والإسلامي في العصر البويهي".

تجمع بعض لوحات المعرض الصورة الفوتوغرافيةَ لوجه شخص مجهول مع الحروف. تبدو الشخصيات كما لو أنها تمشي عبر الحروف، أو بينها، أو أن الحروف تخترقها. هذه المجموعة يُسمّيها "ميدان التحرير"، وعنها يوضّح: "هو عمل له علاقة بما جرى ذات يوم في ميدان التحرير بمصر. العمل ليست له علاقة بالدعاية الثورية بقدر ما يدخل في تصوُّر صوفي محض، ليقول إننا كلّنا ننتهي إلى حروف".

أمّا عن خيار نوع الخط الذي يرسمه، فيوضّح: "لست خطّاطاً بالمفهوم المتعارف عليه. أشتغل على الكتابة، وأستلهم أعمالي من الديناميكية الإبداعية التي كانت لدى الورّاقين وكتّاب المخطوطات". من هؤلاء الورّاقين، ينهمك خلوفي حالياً في دراسة واستنطاق تقنيات الكتابة التي كان يشتغل عليها أحد كبار خطّاطي العصر الثامن عشر، وهو العارف بالله أبو عبد الله محمد القندوسي، نسبة إلى بلدته القنادسة في جنوب الجزائر، والتي غادرها حوالي سنة 1790 إلى تلمسان حيث استقرّ لفترة قصيرة، ومنها سافر إلى فاس حيث عاش بقية حياته.

عن سرّ اهتمامه بالقندوسي، يقول: "ما جذبني إلى هذا الفنّان العظيم طريقتُه الابتكارية في تعامله مع الحرف العربي. كان حداثياً وله نظرة تيبوغرافية فعلاً للحرف العربي"، ويضيف: "كما أنه قدّم نموذجاً ثورياً في كتابة البسملة، فقد كان من المعتاد عند الخطّاطين أجمعين أن يكتبوا اسم الجلالة في الأعلى، إلّا هو تعامل مع البسملة بطريقة فيها الكثير من الجرأة".

تصميمات غرافيكية ومجسّمات وتجهيزات صلصالية تُجسّد مقولات من التراث الصوفي. من أين جاء هذا الشغف؟ يشرح خلوفي: "عملي يستمد قوّته من الإسلام نفسه، من هذه الديناميكية في التعامل مع الأشياء المحيطة. الفنُّ الذي أقدّمه شاملٌ، ويرتكز على معنى الحياة في بعدها الكوني. أشتغل على قاعدة جمالية تُعنى بالرؤية بين عين الجسد وعين القلب، فيدي التي أخطّ بها هي امتداد لقلبي. أشتغل بحسب ما تمليه عليَّ عين قلبي؛ فالصورة عندي هي إحالة إلى عالم "حضرة الخيال"، والتخيّلُ يرتكز على المخيال، والمخيال له علاقة مباشرة بعلم المرايا العاكسة للبواطن في نظام الحكمة التأمّلية التي تجسّد الشيئيات".

يشتغل التشكيلي على مادّة الصلصال التي يجدها في الطبيعة: "مرسمي الحقيقي مفتوح على الطبيعة التي تُعلّمنا وتُخبرنا. أعيش في تناسق فائق مع محيطي وبيئتي". أمّا عملية التحضير للوحة، فتمرّ عبر عدّة محطات؛ إذ إن الكتابة الخطية امتداد ونظرة مختلفة ومعاصرة للخط العربي.

يتابع يزيد خلوفي بالقول إنها "نوع من طبوغرافيا الذات، وذلك لقوّة حضور الحروف في الوجدان العربي. وفي ما يخص المقاييس، غالباً ما أشتغل على المربّع، والذي يعبّر بامتياز عن الشكل الخالص "الحر" في الفكر الفلسفي الإشراقي. كتاباتي تعكس نوعاً من التمازج والتلاقي بين مختلف الحضارات الشرقية".

مريم. ع/ الوكالات

 

من نفس القسم الثقافي