الثقافي

الجزائري عباس العلاونة... ربع قرن من الشغف بالكتب المستعملة

علاقتي بالكتاب غير قابلة للنقاش أو المساومة أو الاستبدال أو المنافسة

ثمّة أماكن ترتبط بوجوه معينة. ينطبق هذا على قلب مدينة برج بوعريريج (200 كيلومتر إلى الشرق من الجزائر العاصمة)، أو ما يُعرف بالبرج القديم، حيث ينصب العم عباس العلاونة (مواليد 1958)، مجموعة من صناديق الكرتون، يضع فوقها كتباً مستعملة، ويجاورها على مقعد صغير، فكأنه جدّ يحرس أحفاده. ولا يكتمل مشهد المكان من دونه.

بقبعته الفرنسية ووجهه الحليق وبذلته الأنيقة يجلس "راهب البرج" بين كتبه منتظراً زبائن ما زالوا أوفياء للكتاب بالرغم من تخلي كثيرين عنه وعن القراءة نهائياً، وإحلال آخرين شاشات الكومبيوتر والأجهزة اللوحية والهواتف الذكية محل الورق. عناوين كتبه متنوعة؛ عربية وفرنسية وإنكليزية وغيرها، منها التعليمي، ومنها الأدبي والفكري. بعضها يعيدك إلى السنوات الأولى لحرب التحرير وبعضها الآخر يتطرق إلى مواضيع راهنة. من بين كتبه ما يساير السوق وذوقه العام، ومنها ما ينتظر زبوناً واحداً، ربما؛ زبوناً واحداً شغوفاً بموضوعه من دون كلّ المواضيع.

على هذه الحال، يعود العم عباس إلى طفولته البعيدة، فيحس سامعه، وهو يتحدث عنها، بسلطتها على عقله وروحه وعينيه وتعابيره المختلفة: "أنتمي إلى أول دفعة من التلاميذ الجزائريين بعد الاستقلال الوطني، إذ التحقت بالمدرسة عام 1964، في الوقت الذي كان فيه الطفل الجزائري مبرمجاً على المرعى أكثر من برمجته على المدرسة، امتداداً للوضع الذي كان سائداً قبل الاستقلال".ومن المظاهر التي بقيت ممتدة أيضاً في الفضاء الجزائري خلال السنوات العشر، التي تلت الاستقلال الوطني (1962) بقاء نخبة من المعلمين الفرنسيين في المدرسة الجزائرية. وكان لهم دور حاسم في تكوين الرعيل الأول من المتعلمين الجزائريين، يذكر منهم العم عباس الأستاذ كازو: "جعلني أتعلق به في البداية، فقد كان ودوداً وذا روح أبوية، ثم استغل ذلك التعلق في جعلي أحب القراءة والكتب، فأقبل عليهما بكلّ جوارحي، وأنفق ما يقع في يديّ من مال عليها، عوضاً عن إنفاقه على الحلوى وما يُغري الأطفال".

يقول لـ"العربي الجديد": "من هنا، باتت علاقتي بالكتاب غير قابلة للنقاش أو المساومة أو الاستبدال أو المنافسة. وقد كانت أسرتي تعتقد أنّ إقبالي على الكتب خارج المقرر المدرسي يُؤثر سلباً في تحصيلي، فعقدت معها اتفاقاً هو أن تتركني أقرأ ما أشاء مقابل وعدي لها بافتكاك شهادة، وهذا ما كان عام 1978 إذ حصلت على دبلوم كاتب إداري".التحق "القراي" (التسمية التي يحملها القارئ النهم في الجزائر) بالخدمة العسكرية الإجبارية ما بين عامي 1982 و1984، ناقلاً معه عادة القراءة إلى الثكنة، إذ كان يُزاوج بين الرشاش والكتاب، في مشهد جلب له مشاكل مع رؤسائه: "لكنني لم أتخلَّ عنه، فكنت أستغني عن الخروج للتنفس خارج الثكنة، في فترات الراحة، لأقرأ في كتاب كنت أجّلت إكماله تحت ضغط الحراسة".

لم يتردد عباس العلاونة، بعد نهاية الخدمة العسكرية، في فتح محل للحلاقة المختلطة، إذ كان السياق الاجتماعي، في تلك الفترة، يسمح بدخول المرأة والرجل إلى المحل نفسه، فأغرق محله بالكتب والمجلات، وبات أقرب إلى مكتبة منه إلى محل حلاقة. وكان يحدث زبائنه عن مضامين تلك الكتب، بالحماسة التي يتحدث بها حلاق اليوم عن بطولات كرة القدم في العالم. يقول: "يمكننا أن نربط بداية الأزمة الوطنية العامة في الجزائر، ببداية انسحاب الكتاب من الفضاء العام".

اندلعت شرارة العنف والإرهاب في الشارع الجزائري مطلع تسعينيات القرن العشرين، فبات الجزائري يتجنب الدخول إلى الأماكن التي يلتقي فيها بالآخرين، وهو ما أثر في مدخول الحلاق عاشق الكتب، فأقدم على خطوة كان وفياً بها لهذا العشق وهي الخروج بكتبه إلى الشارع من غير أي غطاء. كان ذلك عام 1993، قبالة الملعب البلدي، في مدينة برج بوعريريج، ثم داخل السوق العام، مستفيداً من عادة لازمته منذ صغره، هي أنّه كان يشتري الكتاب خلال الموسم الدراسي ليقرأه، ثم يبيعه خلال العطلة ليشتري غيره.يقول "عمي عباس"، هكذا يُناديه سكان المدينة، إنّ خروجه إلى الشارع بكتبه كان موقفاً من الجماعات المسلحة، التي كانت تهدف إلى قتل الفن والفنانين والثقافة والمثقفين والأدب والأدباء، وقد اغتيل من هؤلاء العشرات: "كان لا بد من وجود إنسان يبيع كتباً في الفضاء العام كنوع من المقاومة، بالموازاة مع مقاومة الجيش الوطني الشعبي بالسلاح". يضيف: "للعودة إلى الكتب التي اضطررنا إلى التخلّي عنها طعم العودة إلى الأبناء، بعد سفر طويل".

بعد انقشاع غيوم الإرهاب، اختار عباس بقعة له تحت أقواس البرج القديم، وشدد على أناقة مظهره، بالرغم من قلة مدخوله، وله في ذلك رسالة جديرة بالانتباه. يقول لـ"العربي الجديد": "استمراري في بيع الكتب في الفضاء العام كان ثمرة لرغبتي في مقاومة الروح الاستهلاكية، التي هيمنت على الشارع الجزائري، خلال السنوات الأخيرة، وحرصي على أناقة المظهر هي رسالة إلى الجيل الجديد، الذي بات يربط بين المثقف ورثاثة المظهر".

يحصل العم عباس على الكتب، التي تكون عادة فكرية وأدبية، باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية والإيطالية والإسبانية، من خلال ثلاث طرق هي الإهداء والشراء والتبادل. ويلفت الانتباه إلى معطى مهمّ في سياق التحولات الاقتصادية والاجتماعية في الحياة الجزائرية بالقول: "انزاح البيت الجزائري في العقدين الأخيرين إلى المجال الضيق، بعدما كان واسعاً، وهو ما جعل المكتبات المنزلية محلّ استغناء. وخلق التقشّف الذي أفرزه هبوط أسعار النفط عادة إقدام الجزائريّ على بيع أغراضه القديمة ومنها الكتب والمكتبات". يشرح فكرته: "في السابق، كان الزبون يبرر لي بيع كتبه برغبته في استبدالها، أمّا اليوم، فهو يبرّر ذلك بحاجته إلى المال لشراء دواء أو لوازم مدرسية لأبنائه".

تقدم الرجل في السن فرض حاجته إلى محل مغطى، وهو ما دفعه عام 2014 إلى أن يرسل طلباً بذلك للبلدية مشفوعاً بـ600 توقيع من السكان. وقد حضرت "العربي الجديد" نشاطاً ثقافياً نقل فيه العم عباس هذا الطلب إلى والي برج بوعريريج، الذي أثنى على تجربته ووعده بذلك: "فهل أعيش يوماً أحظى فيه بمحل يقيني البرد وأنشر فيه دفء القراءة"؟.

الوكالات

من نفس القسم الثقافي