الثقافي

"كفنٌ للموت": الكاتب داخل الحكاية وخارجها

يتنازل السارد عن سلطة الكتابة الحصرية ويتقاسمها مع القارئ

في مجموعته القصصية "كفن للموت"، الصادرة عن "دار العين" المصرية، يواصل الكاتب والشاعر الجزائري عبد الرزاق بوكبّة تجربته السردية التي افتتحها برواية "جلدة الظل" (2009)، يمكن تصنيف نصوص المجموعة ضمن جنس القصص القصيرة جدّاً، وهو خيار لا يبرّره قصر القصص وحدها، بل نزوع الكاتب إلى أركان هذا الفن الذي ازدهر، بأشكال مختلفة، مع انتشار الوسائط الإعلامية الجديدة التي نقلته إلى فضاءات أرحب.

يبدو وفاء بوكبة لهذا الجنس السردي واضحاً على مدى القصص الخمس عشرة التي تؤلّف المجموعة. فالرهان على عنصر المفارقة حاضر، بدءاً من عتبة العنوان "كفن للموت" ووصولاً إلى نصوص الكتاب المختلفة. في قصة "القبر" نقرأ: "يكفي أن تناديني، حتى تجدني عندك يا الزبير. حبلتُ بك قبل أن تولد، فاحْبلْ بي بعد أن أموت".

الحال أن القصص القصيرة جدّاً، إلى جانب اعتمادها على المفارقة، تنحو إلى نوع من التكثيف اللغوي الذي يجعلها على تخوم الشعر، إلا أنها تنأى بنفسها عنه بتركيزها على الحكائية وعلى رمزية المسكوت عنه داخل المتن القصصي.

تتجلّى "بلاغة الحذف" هذه مثلاً في قصّة "ورقة مهرّبة من المنام" التي نقرأ فيها: "رفع رأسه إلى سماء عينيها، فسالت دمعتها على خدّه. لم يدْرٍ هل هي له أم لها، وذاب في حضنها: سارة.. هربت بالحذاء".

يبدو حذر بوكبة واضحاً من الانسياق وراء غواية الشعر، متفادياً بذلك أسئلة التجنيس. هكذا، جاءت قصصه القصيرة بمظهر سردي أنيق، وكان سعيه حثيثاً من أجل توريط القارئ داخل الحكاية، وذلك من خلال تلميحات سردية بمستويات عدّة، خصوصاً في قصة "أوراق غير معتمدة"، التي يورد الراوي فيها مجموعة من النهايات المحتملة التي تنتزع منه السلطة الحصرية لكتابة النهاية وتجعلها موضع تداول بينه وبين القارئ.

القصص في عمومها تدور حول حكاية رئيسية: علاقة حب بين "سارة بن الأشهب" و"الزبير بن نجمة"، تتراوح بين السوريالية، وحضور الموت بوصفه المحقّق الوحيد للحب، إضافة إلى استدعاء رمزي لأم "الزبير" من عوالم الأحلام، وتوظيفها ضمن إطار علاقة تقترب من الأوديبية، خصوصاً عندما تشتبك قصة الأم والعشيقة: "ماتت (أم الزبير) وهي تقول: "اعْطِه (الحذاء) لسارة، حتى لا تفتقد خطواتي".

تبدو القصص المتتابعة كحواش على هذه القصة التي يداخلها حضور الكاتب باسمه الحقيقي "عبد الرزاق بوكبة" وسيرته من حين لآخر، وهو خيار سبق للكاتب توظيفه في أعمال أخرى، في تحدّ لذلك الفصل الذي أقامته البنيوية بين النص وصاحبه، مهملةً بذلك أهمية السياق والذاتية في إنتاج النصوص الإبداعية التي لا تخلو أبداً من هذه الهواجس.

بمجموعته، يضيف بوكبة متناً جديداً للنصوص القصصية العربية التي يتهدّدها صعود الرواية التجاري والإعلامي. لعلّ ذلك يثبت قدرة هذا الجنس الأدبي على تمثّل تجارب سردية مغايرة.

ف. س/الوكالات

 

من نفس القسم الثقافي